فأجاب : الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ; صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم . الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام " ثلاثة أنواع " . [ ص: 58 ] " النوع الأول " صيغة التنجيز مثل أن يقول : امرأتي طالق . أو : أنت طالق . أو : فلانة طالق . أو هي مطلقة . ونحو ذلك : فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين . ومن قال : إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل . وكذلك إذا قال : عبدي حر . أو علي صيام شهر . أو : عتق رقبة . أو : الحل علي حرام . أو : أنت علي كظهر أمي : فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق .
" والنوع الثاني " أن يحلف بذلك فيقول : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا . أو لا أفعل كذا . أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه الذي يرى أنه يبر قسمه - ليفعلن كذا . أو لا يفعل كذا . أو يقول : الحل علي حرام لأفعلن كذا . أو لا أفعله . أو يقول : علي الحج لأفعلن كذا . أو لا أفعله ونحو ذلك : فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور ; لا موقع لها . وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال . " أحدها " أنه إذا حنث لزمه ما حلف به .
" والنوع الثالث " من الصيغ : أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط ; فيقول : إن كان كذا فعلي الطلاق . أو الحج . أو فعبيدي أحرار . ونحو ذلك : فهذا ينظر إلى مقصوده فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف ; وهو من " باب اليمين " .
وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور : كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط : مثل أن يقول لامرأته : إن أبرأتيني من طلاقك أنت طالق . فتبرئه . أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول : إذا فعلت كذا فأنت طالق ; بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها ; ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا . وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها . فيكون موقعا لطلاق إذا وجد [ ص: 60 ] ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال : إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر فشفي فإنه يلزمه الصوم . فالأصل في هذا : أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط .
وإن كان مقصوده أن يحلف بها ; وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها ; لا موقع لها فيكون قوله من " باب اليمين " ; لا من " باب التطليق والنذر " فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله : إن فعلت كذا فأنا يهودي ; أو نصراني ونسائي طوالق وعبيدي أحرار وعلي المشي إلى بيت الله . فهذا ونحوه يمين ; بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه وكلاهما ملتزم ; لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال : إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني فإن هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط : فهذا حالف .
والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم ; سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له . فهذا موقع ليس بحالف . وكلاهما ملتزم معلق ; لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم . والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء . [ ص: 61 ] كالشافعي وأحمد وغيرها : في تعليق النذر . قالوا : إذا كان مقصوده النذر فقال : لئن شفى الله مريضي فعلي الحج . فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه . وكذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة . nindex.php?page=showalam&ids=219وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد من الصحابة في من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر . قالوا : يكفر عن يمينه . ولا يلزمه العتق .
هذا مع أن العتق طاعة وقربة ; فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال ابن عباس رضي الله عنه الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله . ذكره البخاري في صحيحه . بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه ; لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة أنها قالت : كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله . وهذا يتناول جميع الأيمان : من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر . وغير ذلك .
وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم ; فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله . وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فما تنازع فيه المسلمين وجب رده إلى الكتاب والسنة . والاعتبار - الذي هو أصح القياس وأجلاه - إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما في ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا [ ص: 64 ] فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه : إما في آصار وأغلال وإما في مكر واحتيال : كالاحتيال في ألفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح والاحتيال بدور الطلاق والاحتيال بخلع اليمين والاحتيال بالتحليل .