أحدهما يتضمن شيئين حكما وكونه قرآنا . فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة . وأما ما فيه من كونه قرآنا فهذا لم نثبته ولم نتصور أن ذلك قرآن ; إنما نسخ رسمه وبقي حكمه . فقال أولئك : هذا تناقض وقراءة شاذة عند الشافعي ; فإن عنده أن القراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها ; لأنها لم تثبت بالتواتر كقراءة [ ص: 43 ] ابن مسعود : فصيام ثلاثة أيام متتابعات . وأجابوا عن ذلك بجوابين : " أحدهما " أن هذا فيه حديث آخر صحيح وأيضا فلم يثبت أنه بقي قرآن لكن بقي حكمه . و " الثاني " أن هذا الأصل لا يقول به أكثر العلماء ; بل مذهب أبي حنيفة ; بل ذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام . و " القول الثاني " في المسألة أنه يحرم قليله وكثيره كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك ; وهي رواية ضعيفة عن أحمد . وهؤلاء احتجوا بظاهر قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وقال اسم " الرضاعة " في القرآن مطلق .
وأما الأحاديث فمنهم من لم تبلغه . ومنهم من اعتقد أنها ضعيفة . ومنهم من ظن أنها تخالف ظاهر القرآن واعتقد أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن وتقييد مطلقه بأخبار الآحاد . فقال " الأولون " : هذه أخبار صحيحة ثابتة عند أهل العلم بالحديث وكونها لم تبلغ بعض السلف لا يوجب ذلك ترك العمل بها عند من يعلم صحتها . وأما القرآن فإنه يحتمل أن يقال : فكما أنه قد علم بدليل آخر أن الرضاعة مقيدة بسن مخصوص فكذلك يعلم أنها مقيدة بقدر مخصوص . وهذا كما أنه علم بالسنة مقدار الفدية في قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وإن كان الخبر المروي خبرا واحدا ; بل كما ثبت بالسنة " { nindex.php?page=hadith&LINKID=30653أنه لا تنكح المرأة على عمتها [ ص: 44 ] ولا تنكح المرأة على خالتها } وهو خبر واحد بظاهر القرآن ; واتفق الأئمة على العمل به . وكذلك فسر بالسنة المتواترة وغير المتواترة بحمل قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }
. وفسر بالسنة المتواترة أمور من العبادات والكفارات والحدود : ما هو مطلق من القرآن . فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
والتقييد " بالخمس " له أصول كثيرة في الشريعة ; فإن الإسلام بني على خمس والصلوات المفروضات خمس وليس فيما دون خمس صدقة والأوقاص بين النصب خمس أو عشر أو خمس عشرة وأنواع البر خمس كما قال تعالى : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال في الكفر : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } وأولو العزم ; وأمثال ذلك بقدر الرضاع المحرم ليس بغريب في أصول الشريعة . والرضاع إذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشز العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين ; وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ; ولهذا لم يحرم رضاع الكبير ; لأنه بمنزلة الطعام والشراب .
والرضعة والرضعتان ليس لها تأثير كما أنه قد يسقط اعتبارها كما يسقط اعتبار ما دون نصاب السرقة حتى لا تقطع الأيدي بشيء من التافه ; واعتباره في نصاب الزكاة فلا يجب فيها شيء إذا كان أقل . ولا بد من حد فاصل . فهذا هو [ ص: 45 ] التنبيه على مأخذ الأئمة في هذه المسألة . وبسط الكلام فيها يحتاج إلى ورقة أكبر من هذه ; وهي من أشهر مسائل النزاع . والنزاع فيها من زمان الصحابة والصحابة رضي الله عنهم تنازعوا في هذه المسألة والتابعون بعدهم . وأما إذا شك : هل دخل اللبن في جوف الصبي أو لم يحصل ؟ فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب . وإن علم أنه حصل في فمه فإن حصول اللبن في الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين .