[ ص: 77 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة ; هل القول قولها ؟ أم قول الرجل ؟ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين ؟ والمسئول بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما .
فأجاب : الحمد لله . إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة ; ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي : أنت ما أنفقت علي ولا كسوتني ; بل حصل ذلك من غيرك . وقال هو : بل النفقة والكسوة كانت مني . ففيها قولان للعلماء . " أحدهما " القول قوله وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعان فيمن علمها فيقول هو : أنا علمتها وتقول هي : أنا تعلمتها من غيره .
ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد . والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة وهو مذهب مالك . وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليه شيئا ; لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده كنفقة الأقارب وهو قول في مذهب أحمد . وأصحاب هذا القول يقولون : [ ص: 78 ] وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون : وجبت بطريق المعاوضة فلا تسقط بمضي الزمان . ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد : القول قول المرأة ; لأن الأصل عدم المقبوض كما لو تنازعا في قبض الصداق . والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة ; فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه : " أحدها " أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك لكانت الهمم متوفرة على دعوى النساء وذلك كما هو الواقع . فعلم أنه كان مستقرا بينهم أنه لا يقبل قولها .
" الثاني " أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف . [ ص: 79 ] " الثالث " أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه كالإشهاد على الوطء ; فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور ; مع أن الأصل عدمه ; بل إما أن يكون القول [ قول ] الرجل أو يؤمر بإخراج المني أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء . على ما للعلماء في ذلك من النزاع . فهنا دعواها وافقت الأصل ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك . والإنفاق في البيوت بهذه المثابة ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة ; فإن هذا بدعة في الدين وحرج على المسلمين واتباع لغير سبيل المؤمنين . " الرابع " أن العلماء متنازعون : هل يجب تمليك النفقة ؟ على قولين . والأظهر أنه لا يجب ولا يجب أن يفرض لها شيئا ; بل يطعمها ويكسوها بالمعروف .
وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد . ما لا يحصيه إلا رب العباد . وهو يئول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيئا وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان ; والظلم والعدوان .
" الوجه الخامس " أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوى المتداعيين ; سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية ; أو اليد الحسية أو العادة العملية ; ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ; كالأيمان في القسامة وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين والنبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه ; ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه فيحكم للمرأة بمتاع النساء [ ص: 82 ] وللرجل بمتاع الرجال ; وإن كانت اليد الحسية منهما ثابتة على هذا وهذا لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه .
وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة : " الوجه السادس " أن هذه المرأة لا بد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي وذلك إما أن يكون من الزوج وإما أن يكون من غيره . والأصل عدم غيره فيكون منه كما قلنا في أصح الوجهين : إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها ; لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم ; كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها ؟ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة . ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمى الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله ; لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه بخلاف ما إذا تردى في ماء أو خالط كلبه كلابا أخرى فإن تلك لأسباب شاركت في الزهوق . وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا .