فأجاب : الحمد لله ، من لعن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=33كمعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ونحوهما ; ومن هو أفضل من هؤلاء : كأبي موسى الأشعري ، nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة ، ونحوهما ; أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة ، والزبير ، وعثمان ، nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ، أو أبي بكر الصديق ، وعمر ، أو عائشة أم المؤمنين ، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين . وتنازع العلماء : هل يعاقب بالقتل ؟ أو ما دون القتل ؟ كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30276لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل [ ص: 59 ] أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } . واللعنة أعظم من السب . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=32447لعن المؤمن كقتله } فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله .
وسورة الفتح " الذي فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة ; بل قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور ، وبذلك الصلح حصل من الفتح ما لا يعلمه إلا الله ; مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين ; ولم يعلموا ما فيه من حسن العاقبة حتى قال سهل بن حنيف : أيها الناس اتهموا الرأي ، فقد رأيتني يوم nindex.php?page=showalam&ids=142أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت . رواه البخاري وغيره ، فلما كان من العام القابل اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين ، وأهل مكة يومئذ مع المشركين ; ولما كان في العام الثامن فتح مكة في شهر رمضان ; وقد أنزل الله في سورة الفتح : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } فوعدهم في سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين ; وأنجز موعده من [ ص: 61 ] العام الثاني ، وأنزل في ذلك : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } وذلك كله قبل فتح مكة . فمن توهم أن " سورة الفتح " نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطا بينا . " والمقصود " أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل على من بعدهم ، حتى قال لخالد : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30276لا تسبوا أصحابي } فإنهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله .
والرابع خالد بن الوليد ، وهو أميرهم المطلق ، ثم عزله عمر ، وولى nindex.php?page=showalam&ids=5أبا عبيدة عامر بن الجراح ، الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له أنه أمين هذه الأمة فكان فتح الشام على يد أبي عبيدة ، وفتح العراق على يد سعد بن أبي وقاص . ثم لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية ، وكان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة ، وأخبرهم بالرجال ، وأقومهم [ ص: 65 ] بالحق ، وأعلمهم به ، حتى قال nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=69779إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه } وقال : { لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر } وقال ابن عمر : ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه . وقد { nindex.php?page=hadith&LINKID=69780قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك } . ولا استعمل عمر قط ; بل ولا أبو بكر على المسلمين : منافقا ، ولا استعملا من أقاربهما ، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم ; بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم ، وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق : لا تستعمل أحدا منهم ، ولا تشاورهم في الحرب . فإنهم كانوا أمراء أكابر : مثل طليحة الأسدي ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، والأشعث بن قيس الكندي ، وأمثالهم ، فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين .
فلو كان " عمرو بن العاص " nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما " ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين ; بل عمرو بن العاص قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يول على المسلمين منافقا ، { وقد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية ، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان [ ص: 66 ] نائبه على نجران } وقد اتفق المسلمون على أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان ، فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي صلى الله عليه وسلم يأتمنهم على أحوال المسلمين في العلم والعمل وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ، ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ، لا محاربوهم ، ولا غير محاربيهم : بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله ، مأمونون عليه في الرواية عنه ، والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه ، مكذب له . وإذا كانوا مؤمنين ، محبين لله ورسوله : فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله ، وقد ثبت في صحيح البخاري ما معناه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=601114أن رجلا يلقب حمارا ، وكان يشرب الخمر ، وكان كلما شرب أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلده فأتي به إليه مرة ، فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه ، فإنه يحب الله ورسوله } .
ولكن الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هم الذين قال العلماء : إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب . فأما الصديقون ، والشهداء ; والصالحون : فليسوا بمعصومين . وهذا في الذنوب المحققة . وأما ما اجتهدوا فيه : فتارة يصيبون ، وتارة يخطئون . فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران ، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم ، وخطؤهم مغفور لهم . وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين : فتارة يغلون فيهم ; ويقولون : إنهم معصومون . وتارة يجفون عنهم ; ويقولون : إنهم باغون بالخطأ . وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ، ولا يؤثمون . [ ص: 70 ] ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال . فطائفة سبت السلف ولعنتهم ; لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبا ، وأن من فعلها يستحق اللعنة ; بل قد يفسقونهم ; أو يكفرونهم ، كما فعلت الخوارج الذين كفروا nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ، nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان ، ومن تولاهما ، ولعنوهم ، وسبوهم ، واستحلوا قتالهم . وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=69841يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية } وقال صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=601118تمرق مارقة على فرقة من المسلمين ، فتقاتلها أولى الطائفتين لأجل الحق } وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ، وكفروا كل من تولاه .
وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين : فرقة مع علي ، وفرقة مع معاوية . فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه ، فوقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وكما ثبت عنه أيضا في الصحيح أنه { nindex.php?page=hadith&LINKID=51788قال عن الحسن ابنه : إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين } فأصلح الله به بين شيعة علي وشيعة معاوية . وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه وسماه سيدا بذلك ; لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله ، ويرضاه الله ورسوله . ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك ; بل يكون الحسن قد ترك الواجب ، أو الأحب إلى [ ص: 71 ] الله . وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود ، مرضي لله ورسوله ، وقد ثبت في الصحيح ، أن { nindex.php?page=hadith&LINKID=69788النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه على فخذه ، ويضع nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد ، ويقول : اللهم إني أحبهما ، وأحب من يحبهما } وهذا أيضا مما ظهر فيه محبته ودعوته صلى الله عليه وسلم فإنهما كانا أشد الناس رغبة في الأمر الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم به الحسن ، وأشد الناس كراهة لما يخالفه وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين ، الذين أمر بقتالهم ، وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم ; ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين ، وظهر من علي رضي الله عنه السرور بقتالهم ; ومن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم : ما قد ظهر عنه وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر ، ولم يظهر فيه سرور ; بل ظهر منه الكآبة ، وتمنى أن لا يقع ، وشكر بعض الصحابة ، وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق ، وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين ، وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة .
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فسماهم " مؤمنين " وجعلهم " إخوة " مع وجود الاقتتال والبغي . والحديث المذكور { إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون } كذب مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة . و " معاوية " لم يدع الخلافة ; ولم يبايع له بها حين قاتل عليا ، ولم يقاتل على أنه خليفة ، ولا أنه يستحق الخلافة ، ويقرون له بذلك ، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه ، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليا وأصحابه بالقتال ، ولا يعلوا . بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته ، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد ، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب ، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب ، فتحصل الطاعة والجماعة . وهم قالوا : إن ذلك لا يجب عليهم ، وإنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا : لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين ، وقتلته في عسكر علي ، وهم غالبون [ ص: 73 ] لهم شوكة ، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا . وعلي لا يمكنه دفعهم ، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان ; وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف . وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونا كاذبة ، برأ الله منها عليا ، وعثمان : كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان ، وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ، ولا رضي بقتله ، ولم يمالئ على قتله . وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه . فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه : فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل ، وأن عليا أمر بقتله . ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي ، وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد ، الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها ، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه ، فكيف في طلب طاعته
وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية ، والعلوية . وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفئا لعلي بالخلافة ، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه فإن فضل علي وسابقيته ، وعلمه ، ودينه ، وشجاعته ، وسائر فضائله : كانت عندهم ظاهرة معروفة ، كفضل إخوانه : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم رضي الله عنهم [ ص: 74 ] ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد ، وسعد كان قد ترك هذا الأمر ، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي ; فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان ، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان ، حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة ; ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف ; ولهذا قيل : ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة . وأما الحديث الذي فيه { nindex.php?page=hadith&LINKID=601119إن عمارا تقتله الفئة الباغية } فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم ; لكن رواه مسلم في صحيحه ، وهو في بعض نسخ البخاري : قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان ، كما قالوا : نبغي nindex.php?page=showalam&ids=13367ابن عفان بأطراف الأسل . وليس بشيء ; بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله ، وليس في كونعمار تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه ، فإنه قد قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة ; بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين .
وليس كل ما كان [ ص: 75 ] بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الإيمان ، ولا يوجب لعنتهم ; فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون ؟ وكل من كان باغيا ، أو ظالما ، أو معتديا ، أو مرتكبا ما هو ذنب فهو " قسمان " متأول ، وغير متأول ، فالمتأول المجتهد : كأهل العلم والدين ، الذين اجتهدوا ، واعتقد بعضهم حل أمور ، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة ، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة ، وأمثال ذلك ، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف . فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون ، وقد قال الله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء . وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام إنما حكما في الحرث ، وخص أحدهما بالعلم والحكم ، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم . والعلماء ورثة الأنبياء ، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه ، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما ، والإصرار عليه فسقا ، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا . فالبغي هو من هذا الباب . [ ص: 76 ] أما إذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا ، ولم يتبين له أنه باغ ، بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئا في اعتقاده : لم تكن تسميته " باغيا " موجبة لإثمه ، فضلا عن أن توجب فسقه . والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين ; يقولون : مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم ; لا عقوبة لهم ; بل للمنع من العدوان . ويقولون : إنهم باقون على العدالة ; لا يفسقون . ويقولون هم كغير المكلف ، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم ; بل تمنع البهائم من العدوان . ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك ، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة . ثم بتقدير أن يكون " البغي " بغير تأويل : يكون ذنبا ، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة : بالحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، وغير ذلك . ثم { nindex.php?page=hadith&LINKID=601120إن عمارا تقتله الفئة الباغية } ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه ; بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته ، وهي طائفة من العسكر ، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها .
ومن المعلوم أنه [ ص: 77 ] كان في العسكر من لم يرض بقتل عمار : كعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيره ; بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار ، حتى معاوية ، وعمرو . ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به ; دون مقاتليه : وأن عليا رد هذا التأويل بقوله : فنحن إذا قتلنا حمزة . ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب ; لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك ، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير . ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارا ، فلم يعتقد أنه باغ ، ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ : فهو متأول مخطئ . والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارا ; لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة : منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته ، ومنهم من يرى الإمساك عن القتال مطلقا . وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين . ففي القول الأول عمار ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب .
وفي الثاني سعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ; nindex.php?page=showalam&ids=111وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ونحوهم . ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي ; ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص ، وكان من القاعدين .
[ ص: 78 ] و " حديث عمار " قد يحتج به من رأى القتال ; لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول : { فقاتلوا التي تبغي } . والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في { أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها } وتقول : إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة ; كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك ; وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال ; ولم يرض به ; وإنما رضي بالصلح ; وإنما أمر الله بقتال الباغي ; ولم يأمر بقتاله ابتداء ; بل قال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } قالوا : والاقتتال الأول لم يأمر الله به ; ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغى عليه ; فإنه إذا قتل كل باغ كفر ; بل غالب المؤمنين ; بل غالب الناس : لا يخلو من ظلم وبغي ; ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما ; وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال ، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت ; لأنها لم تترك القتال ; ولم تجب إلى الصلح ; فلم يندفع شرها إلا بالقتال .
ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد } . قالوا : فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء ; بل أمرنا بالإصلاح [ ص: 79 ] بينهم و " أيضا " ، فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين معهم ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له . و " المقصود " أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة ، ولا يوجب فسقه . وأما " أهل البيت " فلم يسبوا قط . ولله الحمد . ولم يقتل الحجاج أحدا من بني هاشم ، وإنما قتل رجالا من أشراف العرب ، وكان قد تزوج بنت nindex.php?page=showalam&ids=166عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها ; حيث لم يروه كفؤا . والله أعلم .