فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة . وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي ; ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته ; بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف
[ ص: 377 ] الحق في الباطن لم يجز له أخذه ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين كما في الصحيحين عن
أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12365إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار } فهذا سيد الحكام والأمراء والملوك يقول إذا حكمت لشخص بشيء يعلم أنه لا يستحقه فلا يأخذه . وقد أجمع المسلمون على أن
حكم الحاكم بالأملاك المرسلة لا ينفذ في الباطن فلو حكم لزيد بمال عمرو وكان مجتهدا متحريا للحق لم يجز له أخذه .
وأما في " العقود والفسوخ " مثل أن يحكم بنكاح أو طلاق أو بيع أو فسخ بيع ففيه نزاع معروف وجمهورهم يقولون لا ينفذ أيضا وهي مسألة معروفة ; وهذا إذا كان الحاكم عالما عادلا وقد حكم في أمر دنيوي . و "
القضاة ثلاثة أنواع " كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=601200القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة . ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار . ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار } فالقاضي الذي هو من أهل الجنة إذا حكم للإنسان بما يعلم أنه غير حق لم يحل له أخذه ; لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكيف إذا حكم في الدين الذي ليس له أن يحكم فيه ; بل هو فيه واحد من المسلمين إن كان له علم تكلم وإلا سكت .
[ ص: 378 ] مثل أن يحكم بأن السفر إلى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب يثاب فاعله وأن من قال إنه لا يستحب يؤذى ويعاقب أو يحبس : فهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين ; لا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبعه ولا لولي أمر أن ينفذه ومن نفذ مثل هذا الحكم ونصره كان له حكم أمثاله إن قامت عليه الحجة التي بعث الله بها رسوله وخالفها استحقوا العقاب وكذلك إن ألزم بمثل هذا جهلا وألزم الناس بما لا يعلم فإنه مستحق للعقاب فإن كان مجتهدا مخطئا عفي عنه .
وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم ; بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب . وأما من يقول : إن الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين ; وقد قلته اجتهادا أو تقليدا : فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها ; فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق ; بل قد قال الله تعالى في القرآن : {
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } {
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=601201 : أن الله استجاب هذا الدعاء ولما قال المؤمنون : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله : قد فعلت } وكذلك في سائر الدعاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=89226 : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه } فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادا أو تقليدا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطئوا خطأ مجمعا عليه .
وإذا قالوا إنا قلنا الحق واحتجوا بالأدلة الشرعية : لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر فإن ظهر رجع الجميع إليه وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا ; كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكما
[ ص: 380 ] فيحكم بأن قوله هو الصواب . فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه ; بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من عند الله ; حق وهدى وبيان ليس فيه خطأ قط ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى : {
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان ; وهم قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة ; وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم لا يلزمه أحد بترك دينه ; مع العلم بأن دينه يوجب العذاب فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض ; وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها ; فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا .
وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم ; ولا قاله أحد من
الصحابة والتابعين ; ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين
[ ص: 381 ] باتباع هذا القول وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع وأن يقال : القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال
السلف لا يقال ولا يفتى به بل يعاقب ويؤذى من أفتى به ومن تكلم به وغيرهم ويؤذى المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم وهم يعذرون من خفي عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم ولا يعتدون عليه فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده والله لا يغفل عن مثل هذا وليس الحق في هذا لأحد من الخلق فإن الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يظلموا أحدا في دم ولا مال ولا عرض ولا لأحد عليهم دعوى ; بل هم قالوا نحن نتبع ما عرفناه من دين الإسلام وما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الله وعبادته لا شريك له فلا نعبد إلا الله وحده ونعبده بما أمر به رسوله وشرعه من الدين فما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا به أطعناه وما جعله الرسول دينا وقربة وطاعة وحسنة وعملا صالحا وخيرا سمعنا وأطعنا لله ولرسوله واعتقدناه قربة وطاعة وفعلناه وأحببنا من يفعل به ودعونا إليه وما نهانا
[ ص: 382 ] عنه الرسول انتهينا عنه وإن كان غيرنا يعتقد أن ذلك قربة فنحن علينا أن نطيع الرسول ليس علينا أن نطيع من خالفه وإن كان متأولا .
ومعلوم أن أهل الكتاب وأهل البدع يتعبدون تعبدات كثيرة يرونها قربة وطاعة وقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قال أنا أطيع الرسول ولا أتعبد بهذه العبادات بل أنهى عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسوغ أن يعارض بل لو كان مخطئا مع اجتهاده لم يستحق العقوبة بإجماع المسلمين . ولا يجب عليه اتباع حكم أحد بإجماع المسلمين
وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا العمل طاعة أو قربة أو ليس بطاعة ولا قربة ولا بأن السفر إلى المساجد والقبور وقبر النبي صلى الله عليه وسلم يشرع أو لا يشرع ليس للحكام في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين ; بل الكلام في هذا لجميع أمة
محمد صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العلم . وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين ; بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة
[ ص: 383 ] الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين ; فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة ; والمنازع له يتكلم بلا علم والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم .