[ ص: 303 ] فصل : وقد سلك طائفة من أئمة النظار - أهل المعرفة بالكلام والفلسفة - أن يجمعوا بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء ورأوا أن هذا غاية المعرفة وسموا " الجواب " الذي أجابوا به
الفلاسفة عن حججهم " الجواب الباهر " فوافقوا كل واحدة من الطائفتين فأخطئوا وتناقضوا لما جمعوا بين خطأ الطائفتين . فكان قولهم ينقض بعضه بعضا ; إذ كان خطأ الطائفتين متناقضا غاية التناقض . وأما ما أصابت فيه كل واحدة من الطائفتين ; فلو جمعوا بينهما لكان ذلك موافقا للأدلة السمعية التي أخبرت بها الرسل وللأدلة العقلية كالأدلة التي دلت عليها الرسل لكن هؤلاء خرجوا عن موجب الأدلة السمعية والعقلية مع ظنهم نهاية التحقيق ولهم بذلك أسوة بكل واحدة من الطائفتين ; فإنها مخالفة لموجب الأدلة السمعية والعقلية وإنما الحق هو ما تصادقت عليه الأدلة السمعية والعقلية وهو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها متلقين له عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة خبره ومن جهة تعليمه وبيانه للأدلة العقلية . مع أن هؤلاء يزعمون أن الرسل لم يبينوا هذه المسألة كما ذكر ذلك
[ ص: 304 ] الرازي في " أول المطالب العالية " فزعموا أنهم لم يثبتوا بها خبرا فضلا عن بيان الأدلة العقلية المصدقة لخبرهم .
وقد تكلمنا على فساد ما ذكره في ذلك في غير هذا الموضع والمقصود هنا : التنبيه على طريقة هؤلاء الذين سلكوا مسلك الجمع بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء وزعموا أنهم أصحاب " الجواب الباهر " وهذه الطريقة قد ذكرها
الرازي في كتبه ورجحها وأخذها عنه
الأرموي وذكرها في كتاب الأربعين وأخذها عنه
القشيري المصري وهذا القول يشبه
مذهب الحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة الذي نصره
محمد بن زكريا الرازي وصنف فيه .
والرازي " يقوي هذا المذهب في مجمله وغيره وإن كان مذهبا متناقضا كما بين فساده
محمد بن زكريا البلخي وأبو حاتم صاحب " كتاب الزينة " وغيرهما لكن بين مذهب
الحرنانيين وبين مذهب هؤلاء فرق كما سنبينه إن شاء الله .
قال هؤلاء : المتكلمون إنما أقاموا الأدلة على حدوث الأجسام فإنها هي التي بينوا أنها لا تخلوا من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث دائمة لا ابتداء لها . قالوا : ولم يذكر المتكلمون دليلا على نفي موجود سوى الأجسام وسوى الصانع
والفلاسفة أثبتوا موجودات غير ذلك وهي العقول والنفوس . قالوا : والمتكلمون لم يقيموا دليلا على انتفائها ودليلهم
[ ص: 305 ] قالوا : و "
الفلاسفة " لم يقيموا دليلا على قدم الأجسام ; بل أقاموا الأدلة على أن الرب لم يزل فاعلا ولم تزل الحركة والزمان موجودين وعمدتهم أن الأول مستجمع لجميع شروط الفاعلية في الأزل فيجب اقتران الفعل به . وقالوا : إنه يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ; ويمتنع أن الرب لم يزل معطلا عن الفعل ثم وجد الفعل بلا سبب حادث ويمتنع أن يصير قادرا بعد أن لم يكن قادرا ويمتنع أن يصير الفعل ممكنا بعد أن كان ممتنعا بلا سبب حادث ; فينتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي .
وقالوا : كل ما لا بد منه في كون الفاعل فاعلا إن وجد في الأزل لزم وجود الفعل ; فإنه إن لم يوجد بقي متوقفا على شرط آخر ; ونحن قلنا : كل ما لا بد منه في كون الفاعل فاعلا قد وجد في الأزل وإن قيل : قد وجد كل ما لا بد منه من كون الفاعل فاعلا ومع هذا لم يوجد الفعل ; ثم وجد بعد ذلك بلا سبب لزم ترجيح وجود الممكن على عدمه بغير مرجح تام : فإن المرجح التام يجب أن يقترن به الرجحان وإن لم يقترن به الرجحان : فإن كان الفعل ممكن الوجود والعدم ; والممكن يفتقر إلى المرجح فما دام ممكن الوجود والعدم فلا بد له من مرجح : وإذا حصل المرجح التام وجب وجوده ولم يبق حينئذ ممكن الوجود والعدم . قال هؤلاء : فهذا عمدة هؤلاء
الفلاسفة . وأصله أن الحادث لا بد له من سبب حادث وحدوث حادث بدون سبب حادث ممتنع في بداية العقول .
[ ص: 306 ] ولهذا لما أجابهم المتكلمون عن هذا بأجوبة متعددة كانت كلها فاسدة مثل قول بعضهم : المرجح هو العلم وقول بعضهم هو الإرادة ; وقول بعضهم : المرجح مجرد كونه قادرا ; وقول بعضهم : المرجح إمكان الفعل بعد امتناعه ; لا امتناعه في الأزل ونحو ذلك . فقالوا هذه الأجوبة باطلة لوجهين :
( أحدهما : أن جميع ما ذكر إن كان موجودا في الأزل فقد دخل في القسم الأول وإن لم يكن موجودا في الأزل فقد دخل في القسم الثاني ; وقد قلنا : إن جميع الأمور المعتبرة في التأثير إن كانت أزلية لزم كون الأثر أزليا وإن كان بعضها غير أزلي ثم حدث بعد ذلك لزم رجحان وجود الممكن على عدمه بلا مرجح وحدثت الحوادث بلا محدث ; فإنه لو أحدث تمام المؤثر به ولم يكن المؤثر تاما في الأزل : حدث ذلك بلا سبب . و " الوجه الثاني " : أن نسبة القدرة والإرادة والعلم ونفس الأزل إلى وقت حدوث العالم كنسبته إلى ما قبل ذلك وما بعد ذلك . فيمتنع أن تكون هذه هي الموجبة لوجوده في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده . قال
الرازي في " كتابه الكبير " : والجواب الباهر أن نقول : كانت النفس أزلية وهي متحركة دائما ; ثم حصل من تلك الحركات المتعاقبة صفة مخصوصة كانت هي
سبب حدوث الأجسام فبهذا ثبت السبب الحادث الموجب لاختصاص ذلك الوقت بحدوث الأجسام فيه وعلى هذا فالأجسام حادثة وهو موجب أدلة المتكلمة والفاعل لم يزل فاعلا لقدم النفس المعلولة له ; وهو موجب أدلة
[ ص: 307 ] الفلاسفة . وقد يقولون : مقدار حركتها هو الزمان فقلنا بموجب قدم نوع الحركة والزمان مع حدوث الأجسام . فهذا قول هؤلاء المتبعين للطائفتين . وقد قلنا : إنهم اتبعوا كل طائفة فيما أخطأت فيه وأما تناقضهم فلأن المتكلمين إنما اعتمدوا في حدوث الأجسام على امتناع حوادث لا أول لها هذا عمدتهم ; وإلا فمتى جاز وجود حوادث لا بداية لها أمكن أن يكون قبل كل حادث حادث فلا يلزم حدوث ما تقوم به الحوادث المتعاقبة فإن كان هذا الأصل الذي بنى عليه المتكلمون أصلا صحيحا ثابتا امتنع وجود حركات غير متناهية للنفس وغير النفس وحينئذ فمن قال بموجب هذا الأصل مع قوله بوجود حوادث لا أول لها في النفس أو غيرها فقد تناقض .
" وحقيقة قوله " يمتنع وجود حوادث لا أول لها ويجب وجود حوادث لا أول لها . وإن كان هذا الأصل باطلا بطلت أدلتهم على حدوث الأجسام ولزم جواز وجود حوادث لا أول لها ; وحينئذ فيجوز قدم نوعها فالقول بوجوب حدوثها كلها - وأن سبب الحدوث هو حال للنفس - تناقض . و " أيضا " فإن
النفس عند الفلاسفة يمتنع وجودها بدون الجسم ويمتنع وجود الحركة فيها إلا مع الجسم وإنما تكون نفسا إذا كانت مقارنة للجسم كنفس الإنسان مع بدنه . فنفس الفلك إذا فارقت " المادة " - وهي الهيولى
[ ص: 308 ] وهي الجسم - مثل مفارقة نفس الإنسان لبدنه بالموت فقد صارت عندهم عقلا لا يقبل الحركة . فما ذكره من تقدير نفس خالية عن الجسم دائمة الحركة لا يقولون به ولا دليل عليه فيبقى تقديره تقديرا لم يقل به المنازع ولا قام عليه دليل ; ولكن هذا يشبه مذهب "
الحرنانيين " وليس به .
فإن أولئك يقولون : القدماء خمسة : الرب والنفس والمادة والدهر والفضاء ; ولكن لا يقولون : إن النفس ما زالت متحركة ; بل يقولون : إنه حدث لها التفات إلى الهيولى وهي المادة فأحبتها وعشقتها ولم يكن الأولى تخليصها منها إلا بأن تذوق وبال هذا التعلق فصنع العالم وجعل النفس حاصلة مع الأجسام لتذوق حرارة هذا الاجتماع ووباله فتشتاق إلى التخلص منه . ولهذا يقول "
محمد بن زكريا الرازي " : إن هذا العالم ليس فيه لذة أصلا بل النفس لا تزال معذبة حتى تتخلص وراحتها في الخلاص ; وكان حاضرا بمجلس بعض الأكابر فمثل ذلك بما يخرج من دبر الإنسان بغير اختياره من الصوت وجعل ذلك حاصلا من ذلك الكبير فقال له
الكعبي : دخلت في أمور عظيمة ولم تتخلص وأنت إنما فررت من حدوث حادث بلا سبب فيقال لك : فما الموجب لكونها التفتت في ذلك الوقت المعين إلى الهيولى دون ما قبل ذلك الوقت وما بعده ؟ فهذا حادث بلا سبب .
[ ص: 309 ] وهذا المذهب اشتمل على أنواع من الفساد : منها إثبات قديم غير الأول بلا حجة ومنها إثبات نفس مجردة عن الجسم وأن لها حركة بدون الجسم ; وهذا خلاف مذهب "
أرسطو " وأتباعه لكن هؤلاء يقولون : نحن نلتزم أن النفس مع تجردها عن الجسم لها حركة وهذا هو الصحيح ; لكن يقال : أثبتم قدمها وأنها لم تزل غير متحركة ثم تحركت بلا سبب وهذا فاسد . وأنتم لم تقيموا دليلا على قدمها ; بل ولا على وجودها وأنها ليست بجسم . وكذلك يقال لمن أثبت العقول والنفوس من " المتفلسفة " وأنها ليست مشارا إليها : أدلتكم على ذلك ضعيفة كلها ; بل باطلة . ولهذا صار
الطوسي - الذي هو أفضل متأخريهم - إلى أنه لا دليل على إثباتها . وأما "
المتكلمون " فإنهم يقولون : نحن نعلم بالاضطرار أن الممكن لا بد أن يكون مشارا إليه بأنه هنا أو هناك فإثبات ما لا يشار إليه معلوم الفساد بالضرورة وقد ذكروا هذا في كتبهم . وقول
الرازي : إنهم لم يقيموا دليلا على انحصار الممكن في الجسم والعرض ليس كما قال ; بل قالوا : نحن نعلم بالاضطرار أن الممكن لا بد أن يكون مشارا إليه يتميز منه جانب عن جانب . ثم كثير منهم - من هؤلاء - ذكر هذا مطلقا في القديم والحادث وأصوات قديمة أزلية . ثم من هؤلاء من قال : وهي مع ذلك صفة واحدة ومنهم من قال : بل هي متعددة ; ومن هؤلاء من قال : إن تلك الأصوات الأزلية : هي
[ ص: 310 ] الأصوات المسموعة من القراء أو يسمع من القراء صوتان : الصوت القديم وصوت محدث .
والصوت القديم قال بعضهم : إنه حل في المحدث وقال بعضهم : ظهر فيه ولم يحل وقال بعضهم : هو فيه ولا نقول : ظهر ولا حل . والقائلون بهذا طائفة من أهل الحديث والفقه والتصوف ; من أصحاب
الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهما . وهؤلاء حلولية في الصفات دون الذات وقد وافقهم طائفة أخرى من
السالمية والصوفية . وأولئك يقولون بحلول الذات أيضا في كل شيء وأنه يتجلى لكل شيء بصورته ; وقولهم من جنس قول القائلين بأنه بذاته في كل مكان والقائلين " بوحدة الوجود " . لكن هم يقولون مع ذلك : إنه على العرش وإنه يحل في قلوب العارفين بذاته وإنه في كل شيء ; كما ذكر ذلك
أبو طالب المكي ونحوه . وأما "
الأشعرية " فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وكلامه معنى واحد ومعنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والإنجيل [ واحد ] وهذا معلوم الفساد بالضرورة . وكذلك الكلمات هي عندهم شيء واحد فحقيقة قولهم : إنه لا رب ولا قرآن ولا إيمان فقولهم يستلزم التعطيل .