فرد صلى الله عليه وسلم قولها بما تضمنه الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=596066من رؤية المؤمن ما له عند الله من النعيم فأحب الله لقاءه } الحديث . وقد يعترض على هذا سؤال وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه لا لمجرد لقاء الله تعالى فكيف يجازى عليه بحب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصا . بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي بالجواب الصحيح الكافي طلبا للأجر الوافي إن شاء الله تعالى ؟ ؟ .
فأجاب رضي الله عنه وأرضاه : الحمد لله . " أما اللقاء " فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير ; وقالوا : إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات " اللقاء " على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم . وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك أنه قال . في قوله : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ولا يرائي أو قال : ولا يخبر به أحدا وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين : ( أحدهما : السير إلى الملك ( والثاني معاينته . كما قال : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما . وأما المعاينة من غير مسير إليه - كمعاينة الشمس والقمر - فلا يسمى لقاء .
[ ص: 469 ] وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم فيمتنع على أصلهم لقاء الله ; لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم . وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية قد بينا فسادها مبسوطا وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية . وهذه " المسألة " من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها وصنفوا فيها مصنفات مشهورة . ( والثاني : أن عندهم لا يتصور الكدح إليه ولا العرض عليه ولا الوقوف عليه ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده ولا أن يشار إليه ولا أن يرجع إليه ولا يئوب إليه ; إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة - وبينهما فضل - يقتضي تقربا إليه ودنوا منه وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا وهذا كله محال عندهم فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق - كما اتفق السلف والأئمة وصرحوا بأنه مباين للخلق ; ليس داخلا في المخلوقات ولا المخلوقات داخلة فيه - بل تارة يجعلونه حالا بذاته في كل مكان ; وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة ; مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين :
[ ص: 470 ] إما أن يصفوه بما يقتضي عدمه وتعطيله فينكرونه وإن كانوا يقرون به فيجمعون - في قولهم - بين الإقرار والإنكار والنفي والإثبات . وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين ويقول : إن هذا غاية التحقيق والعرفان . وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منها أو صفة لها وذلك أيضا يقتضي قولهم بعدم الخالق وتعطيل الصانع ; وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه . ثم يجدون في المخلوقات مباينا في ربوبية المخلوق فيقولون بالجمع بين النقيضين - كما تقدم - . وقد يقولون بعبادة الأصنام وإن عباد الأصنام على حق وعباد العجل على حق وإنه ما عبد غير الله قط ; إذ لا غير عندهم ; بل الوجود واحد ويقولون بامتناع الدعوة إليه وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه وهم يقولون : ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية ; بل هو عين المدعو فكيف يدعو إلى نفسه ؟ . وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جدا .
وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون " اللقاء " على أن المراد به لقاء جزاء ربهم ويقولون إن الجزاء قد يرى كما في قوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } فإن ضمير المفعول في رأوه عائد إلى الوعد والمراد به الموعود أي فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا . ومن قال إن الضمير عائد هنا إلى الله فقوله ضعيف وفساد قول الذين يجعلون المراد " لقاء الجزاء " دون لقاء الله معلوم بالاضطرار بعد تدبر الكتاب والسنة يظهر فساده من وجوه : - ( أحدها : أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين . ( الثاني : أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن فلا بد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك كما قيل في قوله : { واسأل القرية التي كنا فيها } ولو قال قائل : رأيت زيدا أو لقيته مطلقا وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقا غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره .
( الثالث : أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب ودار مرة بعد مرة على وجه واحد وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق ولم يبين ذلك كان تدليسا وتلبيسا يجب أن يصان كلام الله عنه الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وأنه بيان للناس وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين وأنه بين للناس ما نزل إليهم وأخبر أن عليه بيانه ولا [ ص: 472 ] يجوز أن يقال : ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها ; لوجهين . ( أحدهما : أن يقال : ليس في العقل ما ينافي ذلك ; بل الضرورة العقلية والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن كما قال : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات دون من يقلد فيها بغير نظر تام . ( الثاني : أنه لو فرض أن هناك دليلا عقليا ينافي مدلول القرآن لكان خفيا دقيقا ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء ; إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب .
ومعلوم أن الله قد جازى خلقا على [ ص: 474 ] أعمالهم في الدنيا بخير وشر كما جازى قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ; وكما جازى الأنبياء وأتباعهم ولم يقل مسلم إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله ولو قال قائل إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلا أو النار لقيل له ليس في لفظ هذا [ لقاء ] مخصوص ولا دليل [ عليه ] وليس هو بأولى من أن يقال لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته أو بعض الشياطين وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة ; إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا فبطل ذلك . ( الوجه السابع : أن " لقاء الله " لم يستعمل في لقاء غيره لا حقيقة ولا مجازا ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا ; بل حيث ذكر هذا اللفظ فإنما يراد به لقاء المذكور ; إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به فلا يدل عليه .
( الوجه الثامن : أن قوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما } { تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما } فلو كان " اللقاء " هو لقاء جزائه لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده ; إذ الإعداد مقصوده الوصول فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود ؟ هذا نزاع بين العي الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين ; لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف ; لا في حصول شيء من النعيم المخلوق . [ ص: 475 ] ( الوجه التاسع : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { nindex.php?page=hadith&LINKID=35332من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه } أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد وهذا يمتنع حمله على الجزاء ; لأن الله لا يكره جزاء أحد ولأن الجزاء لا يلقاه الله ; ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقى العبد فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقائه سائر المخلوقات فهذا تعطيل النص . وإما أن يقال : بل هو لاق لبعضها فيتناقض قول الجهمي ويبطل . ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلا عن أكثرها .
. ثم هؤلاء الذين أنكروا حقيقة المحبة لم يمكنهم إنكار لفظها ; لأنه جاء في الكتاب والسنة ففسروا محبته بعبادته وطاعته وامتثال أمره أو محبة أوليائه ونحو ذلك مما يضاف إليه ; ولو علموا أن محبوب الغير لا يكون محبوبا إلا إذا كان [ ص: 478 ] ذلك الغير محبوبا فيكون هو المحبوب بالذات والوسائل يحبون بالعرض . ولو تدبروا قولهم لعلموا أنه مستحيل أن تحب عبادته أو أولياؤه إذا لم يكن هو محبوبا فإذا قدروا أنه هو شيء ليس محبوبا لذاته : كانت محبة العمل الذي يحصل الأكل والشرب إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب والنكاح وكان ذلك من جنس محبة سائر المشتهيات ; فإذا تكون محبة الله ورسوله إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب إذا كان الله لا يحب لنفسه على رأي هؤلاء . وهذه " المسألة " أصل عبادة الله كما أن " المسألة الأولى " أصل الإقرار بالله ; فتلك فيها ذهاب النفس والمال كما قال تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } الآية . ولهذا نعت المحبين المحبوبين بقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } بل أصل " الولاية " الحب وأصل " العداوة " البغض وإنكار الحب والبغض يتضمن إنكار ولاية الله وعداوته كما أنكر بعض الفقهاء قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=596078إنه لا يعز من عاديت } وقوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وهذا باب طويل وقد كتبت في هذين الأصلين عددا يبلغ أكثر من الأسفار وكلام الأولين والآخرين من أهل العلم والإيمان موجود في هذا .
فقول القائل : كيف نتصور عبادة من لا نعرفه ; إذ الإيمان بما لا نعرفه أو الطاعة لما لا نعرفه أو التسبيح والتحميد بما لا نعرفه ونحو ذلك من [ ص: 479 ] العبادات ; فهذه الأمور لا يمكن أن تتعلق بمجهول من كل وجه ; إذ ذلك ممتنع لا يجب أن تكون معرفته للمعبود المحبوب كمعرفته بنفسه ; بل ليس لنا في الوجود من نحبه أو نبغضه ; ونحن نعرفه كمعرفة الله به والمعرفة قد تكون من جهة الاستدلال والنظر . ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا ويتفاوتون في درجات العرفان والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله . وقد قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=29793لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه وهي مسألة كبيرة . والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها : أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=596079أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع وبعضه لفظي مع أن الذي عليه أئمة أهل السنة والحديث - وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم - أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وأئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم - مع جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان - متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب كما تقوله الخوارج ; ولا يسلب جميع الإيمان كما تقوله المعتزلة ; لكن بعض الناس قال : إن إيمان الخلق مستو فلا يتفاضل إيمان أبي بكر وعمر وإيمان الفساق ; بناء على أن التصديق بالقلب واللسان أو بالقلب وذلك لا يتفاضل . [ ص: 480 ] وأما عامة السلف والأئمة فعندهم أن إيمان العباد لا يتساوى بل يتفاضل وإيمان السابقين الأولين أكمل من إيمان أهل الكبائر المجرمين . ثم النزاع مبني على الأصلين .
( أحدهما : العمل . هل يدخل في مطلق الإيمان ؟ فإن العمل يتفاضل بلا نزاع . فمن أدخله في مطلق الإيمان قال : يتفاضل . ومن لم يدخله في مطلق الإيمان احتاج إلى ( الأصل الثاني وهو أن ما في القلب من الإيمان هل يتفاضل ؟ فظن من نفى التفاضل أن ليس في القلب - من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه وأمثال ذلك مما قد يخرجه هؤلاء عن محض التصديق - ما هو متفاضل بلا ريب ثم نفس التصديق أيضا متفاضل من جهات : ( منها أن التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون مجملا وقد يكون مفصلا ; والمفصل من المجمل ; فليس تصديق من عرف القرآن ومعانيه والحديث ومعانيه وصدق بذلك مفصلا كمن صدق أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر ما جاء به لا يعرفه أو لا يفهمه . ( ومنها : أن التصديق المستقر المذكور أتم من العلم الذي يطلب حصوله مع الغفلة عنه . ( ومنها : أن التصديق نفسه يتفاضل كنهه ; فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان وأميط عنه كل أذى وحسبان حتى بلغ أعلى الدرجات ; درجات الإيقان كتصديق زعزعته الشبهات وصدفته الشهوات ولعب به [ ص: 481 ] التقليد ويضعف لشبه المعاند العنيد وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد . ولهذا كان المشايخ - أهل المعرفة والتحقيق السالكون إلى الله أقصد طريق - متفقين على الزيادة والنقصان في الإيمان والتصديق كما هو مذهب أهل السنة والحديث في القديم والحديث وهذه مسائل كبار لا يمكن فيها إلا الإطناب بمثل هذا الجواب .