[ ص: 172 ] فصل :
وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما والمغايرة على مراتب أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزأه ولا يعرف لزومه له كقوله {
خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } ونحو ذلك وقوله : {
وجبريل وميكال } وقوله : {
وأنزل التوراة والإنجيل } {
من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } وهذا هو الغالب . ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله : {
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } وقوله : {
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين } وقوله : {
ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله } فإن من كفر بالله فقد كفر بهذا كله فالمعطوف لازم للمعطوف عليه وفي الآية التي قبلها المعطوف عليه لازم فإنه من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين . وفي الثاني نزاع وقوله : {
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } هما متلازمان فإن من لبس الحق بالباطل فجعله ملبوسا به خفى من الحق بقدر ما ظهر من الباطل فصار ملبوسا ومن كتم الحق احتاج أن يقيم موضعه
[ ص: 173 ] باطلا فيلبس الحق بالباطل ولهذا كان كل من كتم من
أهل الكتاب ما أنزل الله فلا بد أن يظهر باطلا .
وهكذا " أهل البدع " لا تجد أحدا ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئا من السنة كما جاء في الحديث : " {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596255ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها } " رواه الإمام
أحمد . وقد قال تعالى : {
فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء وقال تعالى : {
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } أي عن الذكر الذي أنزله الرحمن وقال تعالى : {
فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } {
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وقال : {
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر ولهذا قال {
ويتبع غير سبيل المؤمنين } قال العلماء : من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه .
وكذلك من لم يفعل المأمور فعل بعض المحظور ومن فعل المحظور لم يفعل جميع المأمور فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض
[ ص: 174 ] ما حظر ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر فإن ترك ما حظر من جملة ما أمر به فهو مأمور ومن المحظور ترك المأمور فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله ولهذا كان لفظ " الأمر " إذا أطلق يتناول النهي وإذا قيد بالنهي كان النهي نظير ما تقدم فإذا قال تعالى عن الملائكة : {
لا يعصون الله ما أمرهم } دخل في ذلك أنه إذا نهاهم عن شيء اجتنبوه وأما قوله : {
ويفعلون ما يؤمرون } فقد قيل : لا يتعدون ما أمروا به وقيل : يفعلونه في وقته لا يقدمونه ولا يؤخرونه .
وقد يقال : هو لم يقل : ولا يفعلون إلا ما يؤمرون بل هذا دل عليه قوله : {
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وقد قيل : لا يعصون ما أمرهم به في الماضي ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل وقد يقال : هذه الآية خبر عما سيكون ليس ما أمروا به هنا ماضيا بل الجميع مستقبل فإنه قال : {
قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وما يتقي به إنما يكون مستقبلا وقد يقال : ترك المأمور تارة يكون لمعصية الآمر وتارة يكون لعجزه فإذا كان قادرا مريدا لزم وجود المأمور المقدور فقوله {
لا يعصون } لا يمتنعون عن الطاعة وقوله {
ويفعلون ما يؤمرون } أي هم قادرون على ذلك لا يعجزون عن شيء منه بل يفعلونه كله فيلزم وجود كل ما أمروا به وقد يكون في ضمن ذلك أنهم لا يفعلون إلا المأمور به كما يقول القائل : أنا أفعل ما أمرت به أي أفعله ولا أتعداه إلى زيادة ولا نقصان .
[ ص: 175 ] وأيضا فقوله : {
لا يعصون الله ما أمرهم } إن كان نهاهم عن فعل آخر كان ذلك من أمره وإن كان لم ينههم لم يكونوا مذمومين بفعل ما لم ينهوا عنه . والمقصود أن
لفظ " الأمر " إذا أطلق تناول النهي ومنه قوله : {
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } أي أصحاب الأمر ومن كان صاحب الأمر كان صاحب النهي ووجبت طاعته في هذا وهذا فالنهي داخل في الأمر وقال
موسى للخضر : {
ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } {
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } وهذا نهي له عن السؤال حتى يحدث له منه ذكرا ولما خرق السفينة قال له
موسى {
أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا } فسأله قبل إحداث الذكر وقال في الغلام {
أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا } فسأله قبل إحداث الذكر وقال في الجدار {
لو شئت لاتخذت عليه أجرا } وهذا سؤال من جهة المعنى فإن السؤال والطلب قد يكون بصيغة الشرط كما تقول : لو نزلت عندنا لأكرمناك وإن بت الليلة عندنا أحسنت إلينا ومنه قول
آدم {
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقول
نوح {
رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } ومثله كثير ولهذا قال
موسى {
إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فدل على أنه سأله الثلاث قبل أن يحدث له الذكر وهذا معصية لنهيه وقد دخل في قوله {
ولا أعصي لك أمرا } فدل على أن عاصي النهي عاص الأمر ومنه قوله تعالى
[ ص: 176 ] {
ألا له الخلق والأمر } وقد دخل النهي في الأمر .
ومنه قوله : {
فليحذر الذين يخالفون عن أمره } وقوله : {
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } فإن نهيه داخل في ذلك . وقد تنازع الفقهاء في قول الرجل لامرأته : إذا عصيت أمري فأنت طالق إذا نهاها فعصته هل يكون ذلك داخلا في أمره ؟ على قولين : قيل : لا يدخل لأن حقيقة النهي غير حقيقة الأمر وقيل : يدخل لأن ذلك يفهم منه في العرف معصية الأمر والنهي وهذا هو الصواب لأن ما ذكر في العرف هو حقيقة في اللغة والشرع فإن الأمر المطلق من كل متكلم إذا قيل : أطع أمر فلان أو فلان يطيع أمر فلان أو لا يعصي أمره فإنه يدخل فيه النهي لأن الناهي آمر بترك المنهي عنه فلهذا قال سبحانه : {
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } ولم يقل : لا تكتموا الحق فلم ينه عن كل منهما لتلازمهما وليست هذه واو الجمع التي يسميها
الكوفيون واو الصرف كما قد يظنه بعضهم فإنه كان يكون المعنى : لا تجمعوا بينهما فيكون أحدهما وحده غير منهي عنه .
و " أيضا " فتلك إنما تجيء إذا ظهر الفرق كقوله : {
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } وقوله : {
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } {
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } . ومن عطف الملزوم قوله تعالى {
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فإنهم إذا أطاعوا
[ ص: 177 ] الرسول فقد أطاعوا الله كما قال تعالى : {
من يطع الرسول فقد أطاع الله } وإذا أطاع الله من بلغته رسالة
محمد فإنه لا بد أن يطيع الرسول فإنه لا طاعة لله إلا بطاعته . و " الثالث " عطف بعض الشيء عليه كقوله : {
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وقوله {
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وقوله : {
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله : {
وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها } و " الرابع " عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله : {
سبح اسم ربك الأعلى } {
الذي خلق فسوى } {
والذي قدر فهدى } {
والذي أخرج المرعى } وقوله : {
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } {
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } وقد جاء في الشعر ما ذكر أنه عطف لاختلاف اللفظ فقط كقوله :
وألفى قولها كذبا ومينا
.
ومن الناس من يدعي أن مثل هذا جاء في كتاب الله كما يذكرونه في قوله : ( شرعة ومنهاجا وهذا غلط مثل هذا لا يجيء في القرآن ولا في كلام فصيح وغاية ما يذكر الناس اختلاف معنى اللفظ كما ادعى بعضهم أن من هذا قوله :
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
فزعموا أنهما بمعنى واحد . واستشهدوا بذلك على ما ادعوه من أن الشرعة
[ ص: 178 ] هي المنهاج فقال المخالفون لهم : النأي أعم من البعد فإن النأي كلما قل بعده أو كثر ; كأنه مثل المفارقة . والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته وقد قال تعالى : {
وهم ينهون عنه وينأون عنه } وهم مذمومون على مجانبته والتنحي عنه سواء كانوا قريبين أو بعيدين وليس كلهم كان بعيدا عنه لا سيما عند من يقول : نزلت في
أبي طالب وقد قال
النابغة : -
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
. والمراد به ما يحفر حول الخيمة لينزل فيه الماء ولا يدخل الخيمة أي صار كالحوض فهو مجانب للخيمة ليس بعيدا منها .