. وأما
من كان معه أول الإيمان فهذا يصح منه لأن معه إقراره في الباطن بوجوب ما أوجبه الرسول وتحريم ما حرمه وهذا سبب الصحة وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة والنصرة والسلامة من النار فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور ومن فعل بعضا وترك بعضا فيثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه فلا يدخل هذا في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء دون الذم والعقاب . ومن نفى عنه الرسول الإيمان فنفى الإيمان في هذا الحكم لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد . والوعيد إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب ويدفع العقاب ولهذا ما في الكتاب والسنة من
نفي الإيمان [ ص: 424 ] عن أصحاب الذنوب فإنما هو في خطاب الوعيد والذم لا في خطاب الأمر والنهي ولا في أحكام الدنيا . واسم الإسلام والإيمان والإحسان هي أسماء ممدوحة مرغوب فيها لحسن العاقبة لأهلها فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العاقبة الحسنة لمن اتصف بها على الوجه الذي بينه ; ولهذا كان من نفى عنهم الإيمان ; أو الإيمان والإسلام جميعا ولم يجعلهم كفارا إنما نفى ذلك في أحكام الآخرة وهو الثواب لم ينفه في أحكام الدنيا . لكن
المعتزلة ظنت أنه إذا انتفى الاسم انتفت جميع أجزائه فلم يجعلوا معهم شيئا من الإيمان والإسلام فجعلوهم مخلدين في النار وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع
السلف ولو لم يكن معهم شيء من الإيمان والإسلام لم يثبت في حقهم شيء من أحكام المؤمنين والمسلمين لكن كانوا كالمنافقين .
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع
التفريق بين المنافق الذي يكذب الرسول في الباطن وبين المؤمن المذنب فالمعتزلة سووا بين أهل الذنوب وبين المنافقين في أحكام الدنيا والآخرة في نفي الإسلام والإيمان عنهم بل قد يثبتونه للمنافق ظاهرا وينفونه عن المذنب باطنا وظاهرا . فإن قيل : فإذا كان كل مؤمن مسلما وليس كل مسلم مؤمنا - الإيمان الكامل - كما دل عليه حديث
جبريل وغيره من الأحاديث مع القرآن وكما ذكر ذلك عمن ذكر عنه من
السلف لأن الإسلام الطاعات الظاهرة وهو الاستسلام والانقياد لأن " الإسلام في الأصل " هو الاستسلام والانقياد
[ ص: 425 ] وهذا هو الانقياد والطاعة والإيمان فيه معنى التصديق والطمأنينة وهذا قدر زائد فما تقولون فيمن فعل ما أمره الله وترك ما نهى الله عنه مخلصا لله تعالى ظاهرا وباطنا ؟ أليس هذا مسلما باطنا وظاهرا وهو من أهل الجنة وإذا كان كذلك
فالجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة فهذا يجب أن يكون مؤمنا . قلنا : قد ذكرنا غير مرة أنه لا بد أن يكون معه الإيمان الذي وجب عليه إذ لو لم يؤد الواجب لكان معرضا للوعيد ; لكن قد يكون من الإيمان ما لا يجب عليه إما لكونه لم يخاطب به أو لكونه كان عاجزا عنه وهذا أولى لأن الإيمان الموصوف في حديث
جبريل والإسلام لم يكونا واجبين في أول الإسلام بل ولا أوجبا على من تقدم قبلنا من الأمم اتباع الأنبياء أهل الجنة مع أنهم مؤمنون مسلمون ومع أن الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينا غيره ; وهو دين الله في الأولين والآخرين لأن الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر فقد تتنوع أوامره في الشريعة الواحدة فضلا عن الشرائع فيصير في الإسلام بعض الإيمان بما يخرج عنه في وقت آخر كالصلاة إلى الصخرة كان من الإسلام حين كان الله أمر به ثم خرج من الإسلام لما نهى الله عنه .
ومعلوم أن الخمس المذكورة في حديث
جبريل لم تجب في أول الأمر بل الصيام والحج وفرائض الزكاة إنما وجبت
بالمدينة ; والصلوات الخمس إنما
[ ص: 426 ] وجبت ليلة المعراج ; وكثير من الأحاديث ليس فيها ذكر الحج لتأخر وجوبه إلى سنة تسع أو عشر على أصح القولين ; ولما بعث الله
محمدا صلى الله عليه وسلم كان من اتبعه وآمن بما جاء به مؤمنا مسلما ; وإذا مات كان من أهل الجنة ثم إنه بعد هذا زاد " الإيمان والإسلام " حتى قال تعالى : {
اليوم أكملت لكم دينكم } وكذلك الإيمان فإن هذا الإيمان المفصل الذي ذكره في حديث
جبريل لم يكن مأمورا به في أول الأمر لما أنزل الله سورة العلق والمدثر بل إنما جاء هذا في السور المدنية كالبقرة والنساء وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون هذا الإيمان المفصل واجبا على من تقدم قبلنا . وإذا كان كذلك فقد يكون الرجل مسلما يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ومعه الإيمان الذي فرض عليه وهو من أهل الجنة وليس معه هذا الإيمان المذكور في حديث
جبريل لكن هذا يقال : معه ما أمر به من الإيمان والإسلام وقد يكون مسلما يعبد الله كما أمر ولا يعبد غيره ويخافه ويرجوه ; ولكن لم يخلص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله ; وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن يخاف الله لا يخاف غيره ; وأن لا يتوكل إلا على الله ; وهذه كلها من الإيمان الواجب ; وليست من لوازم الإسلام ; فإن الإسلام هو الاستسلام وهو يتضمن الخضوع لله وحده ; والانقياد له والعبودية لله وحده ; وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه .
وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده وأن يكون أحب إليه مما سواهما وبالتوكل عليه وحده وبأن يحب لأخيه المؤمن ما يحب
[ ص: 427 ] لنفسه ; فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به فمن لم يتصف بها لم يكن من المؤمنين حقا وإن كان مسلما وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته . فإن قيل : ففوات هذا الإيمان من الذنوب أم لا ؟ قيل : إذا لم يبلغ الإنسان الخطاب الموجب لذلك لا يكون تركه من الذنوب وأما إن بلغه الخطاب الموجب لذلك فلم يعمل به كان تركه من الذنوب إذا كان قادرا على ذلك وكثير من الناس أو أكثرهم ليس عندهم هذه التفاصيل التي تدخل في الإيمان مع أنهم قائمون بالطاعة الواجبة في الإسلام وإذا وقعت منهم ذنوب تابوا واستغفروا منها ; وحقائق الإيمان التي في القلوب لا يعرفون وجوبها ; بل ولا أنها من الإيمان بل كثير ممن يعرفها منهم يظن أنها من النوافل المستحبة إن صدق بوجوبها . " فالإسلام " يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان وهو المنافق المحض ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان ; ولم يأت بتمام الإيمان الواجب . وهؤلاء ليسوا فساقا تاركين فريضة ظاهرة ولا مرتكبين محرما ظاهرا لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علما وعملا بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين .
[ ص: 428 ] وهذا هو "
النفاق " الذي كان يخافه السلف على نفوسهم . فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق . وبعد هذا ما ميز الله به المقربين على الأبرار أصحاب اليمين من إيمان وتوابعه وذلك قد يكون من باب المستحبات وقد يكون أيضا مما فضل به المؤمن : إيمان وإسلام مما وجب عليه ولم يجب على غيره . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=26106من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } وفي الحديث الآخر : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=26106ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل } فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن ; بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل : ولهذا قال : ليس وراء ذلك " فجعل المؤمنين ثلاث طبقات وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه لكن الأول لما كان أقدرهم كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر وعلم بذلك أن
الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم .