وبتحقق " هذا المقام " يزول الاشتباه في هذا الموضع ويعلم أن
في المسلمين قسما ليس هو منافقا محضا في الدرك الأسفل من النار وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم : {
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } . ولا من الذين قيل فيهم : {
أولئك هم المؤمنون حقا } فلا هم منافقون ولا هم
[ ص: 479 ] من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقا ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب . بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار . وهذا القسم قد يسميه بعض الناس :
الفاسق الملي وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه .
والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل " أصول الدين " . فنقول : لما قتل أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان وسار
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب إلى
العراق وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل ثم يوم
صفين ما هو مشهور : خرجت (
الخوارج المارقون على الطائفتين جميعا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم وذكر حكمهم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : صح الحديث في
الخوارج من عشرة أوجه وهذه العشرة أخرجها
مسلم في صحيحه موافقة
لأحمد وروى
البخاري منها عدة أوجه وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر . ومن أصح حديثهم حديث
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري ففي الصحيحين {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596377عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب أنه قال : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيخرج قوم في آخر الزمان [ ص: 480 ] أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } .
وفي الصحيحين {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596378عن أبي سعيد قال : بعث nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أدم مقروض لم تحصل من ترابها فقال : فقسمها بين أربعة نفر فقال رجل من أصحابه كنا أحق بهذا من هؤلاء قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء قال : فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال : يا رسول الله اتق الله فقال : ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال : ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : لا : لعله أن يكون يصلي قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ; ولا أشق بطونهم قال ثم نظر إليه وهو مقف فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قال : أظنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } . اللفظ
لمسلم .
[ ص: 481 ] ولمسلم في بعض الطرق عن
أبي سعيد {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596379أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق ثم قال شر الخلق أو من شر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } قال
أبو سعيد : أنتم قتلتموهم يا
أهل العراق وفي لفظ له : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596380تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق } وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596381عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين } فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله
الحسن كان أحب إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم من اقتتالهما وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأمورا به
nindex.php?page=showalam&ids=8فعلي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من
معاوية وأصحابه وأن
قتال الخوارج مما أمر به صلى الله عليه وسلم ولذلك اتفق على قتالهم
الصحابة والأئمة .
وهؤلاء
الخوارج لهم أسماء يقال لهم : "
الحرورية " لأنهم خرجوا بمكان يقال له
حروراء ويقال لهم ( أهل
النهروان : لأن
عليا قاتلهم هناك ومن أصنافهم "
الإباضية " أتباع
عبد الله بن إباض و " الأزارقة " أتباع
نافع بن الأزرق و " النجدات " أصحاب
نجدة الحروري . وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بل بما يرونه هم من الذنوب واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 482 ] " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " وكفروا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان ومن والاهما وقتلوا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب مستحلين لقتله قتله
عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم وكان هو وغيره من
الخوارج مجتهدين في العبادة لكن كانوا جهالا فارقوا السنة والجماعة ; فقال هؤلاء : ما الناس إلا مؤمن أو كافر ; والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات ; فمن لم يكن كذلك فهو كافر ; مخلد في النار . ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك فقالوا : إن
عثمان وعليا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارا .
ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596382من بدل دينه فاقتلوه } . وقال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25768لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام وزنى بعد إحصان أو قتل نفس يقتل بها } وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما ، وأمر سبحانه بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة ولو كان كافرا لأمر بقتله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح
البخاري وغيره : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=596383أن رجلا كان يشرب الخمر وكان اسمه عبد الله حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده فأتي به إليه مرة فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 483 ] لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } فنهى عن لعنه بعينه وشهد له بحب الله ورسوله مع أنه قد
لعن شارب الخمر عموما . وهذا من أجود ما يحتج به على أن
الأمر بقتل الشارب في " الثالثة " و " الرابعة " منسوخ ; لأن هذا أتى به ثلاث مرات وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث ; ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز فيجوز أن يقال : يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حدا مقدرا في أصح قولي العلماء كما هو مذهب
الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ; بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها من أنواع التعزير وكذلك صفة الضرب فإنه يجوز
جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف الزاني والقاذف فيجوز أن يقال : قتله في الرابعة من هذا الباب .
و " أيضا " فإن الله - سبحانه - قال : {
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } . فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم . فلما شاع في الأمة أمر "
الخوارج " تكلمت
الصحابة فيهم ورووا عن
[ ص: 484 ] النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم وظهرت بدعتهم في العامة ;