صفحة جزء
وأما ما يذكر عن " غلاة المرجئة " أنهم قالوا : لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلا مشهورا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول . و " أيضا " فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك . وأيضا فإن الذين قذفوا عائشة أم [ ص: 487 ] المؤمنين كان فيهم مسطح بن أثاثة وكان من أهل بدر وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر أن لا يصله : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } . وإن قيل : إن مسطحا وأمثاله تابوا لكن الله لم يشرط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة . وكذلك { حاطب بن أبي بلتعة كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد عمر قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ } . وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : { لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة } وهذه النصوص تقتضي : أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة ; وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا ; والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل . وإذا قيل : إن هذا لأن أحدا من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضا . وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم و " أيضا " قد دلت نصوص الكتاب والسنة : على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب .

" أحدها " التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين قال تعالى : [ ص: 488 ] { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } وقال تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم } . وقال تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } وأمثال ذلك " السبب الثاني " الاستغفار كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا أذنب عبد ذنبا فقال : أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم أذنب ذنبا آخر فقال أي رب أذنبت ذنبا آخر . فاغفره لي فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء قال ذلك : في الثالثة أو الرابعة } وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : { لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم } . وقد يقال على هذا الوجه الاستغفار هو مع التوبة كما جاء في حديث { ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة } وقد يقال : بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع وبسط هذا له موضع آخر فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب كما في حديث البطاقة بأن قول : لا إله [ ص: 489 ] إلا الله ثقلت بتلك السيئات ; لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان وأمثال ذلك كثير .

" السبب الثالث " : الحسنات الماحية كما قال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } وقال صلى الله عليه وسلم { الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر } وقال : { من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } وقال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } وقال { من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه } وقال : { فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . } وقال : { من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه } وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح . وقال : { الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب } . وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة كما قد جاء في بعض الأحاديث : " ما اجتنبت الكبائر " فيجاب عن هذا بوجوه . [ ص: 490 ] أحدها : أن هذا الشرط جاء في الفرائض . كالصلوات الخمس والجمعة وصيام شهر رمضان وذلك أن الله تعالى يقول : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر فإن الله سبحانه يقول : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } . ( الثاني ) : أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في { قوله صلى الله عليه وسلم غفر له وإن كان فر من الزحف } وفي السنن { أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب . فقال : أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار .

} وفي الصحيحين في { حديث أبي ذر وإن زنى وإن سرق . } . ( الثالث ) : أن { قوله لأهل بدر ونحوهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم . فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر . ( الرابع ) : أنه قد جاء في غير { حديث أن أول ما يحاسب عليه العبد من [ ص: 491 ] عمله يوم القيامة الصلاة فإن أكملها وإلا قيل : انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر أعماله كذلك } . ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب ; فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات . وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة مع أن هذا لو كان معارضا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر وهذا غريب رفعه وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر ; وقد ذكره أحمد في " رسالته في الصلاة " . وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها . ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرا لها وإكمالا لها . فلم يكن فيها ثواب نافلة ولهذا قال بعض السلف : النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره يحتاج إلى المغفرة . وتأول على هذا قوله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقا بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة .

فإن قيل : العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع . فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء . قيل : هذا خطأ فإن قيل هذا يقال في جميع مسقطات العقاب . فيقال : إذا كان العبد [ ص: 492 ] يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور ; لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية . والله عليم حكيم رحيم - أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته بل جعل لهم أسبابا يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم ولهذا قيل : إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله . ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب قال بعضهم لشيخه : إني أذنب قال : تب قال : ثم أعود ، قال : تب قال : ثم أعود ، قال : تب قال : إلى متى قال : إلى أن تحزن الشيطان . وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله يحب العبد المفتن التواب } . وأيضا فإن من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجبا فلا يكون تطوعا والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله كما قال تعالى . في الحديث الصحيح : { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } الحديث [ ص: 493 ] فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء : فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا . وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلا ، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعا كان غالطا في جعله ; بل يكون من الواجب الذي يستحقونه .

ومن العجب أن " المعتزلة " يفتخرون بأنهم أهل " التوحيد " و " العدل " وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفيا يستلزم التعطيل والإشراك . وأما " العدل الذي وصف الله به نفسه " فهو أن لا يظلم مثقال ذرة وأنه : من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطا بذنب واحد من الكبائر وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله . ( الخامس ) : أن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة . و " المعتزلة مع الخوارج " يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان قال الله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } فعلق الحبوط بالموت على الكفر وقد ثبت أن هذا ليس بكافر والمعلق بشرط يعدم عند عدمه .

وقال تعالى [ ص: 494 ] { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } وقال تعالى لما ذكر الأنبياء : { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } وقال : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } مطابق لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } . فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه ، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال ، وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } . لأن ذلك كفر ، وقوله تعالى { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط . ولا ريب أن المعصية قد تكون سببا للكفر كما قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر ; فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط ; كما قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } - وهي الكفر - { أو يصيبهم عذاب أليم } وإبليس خالف أمر الله فصار كافرا ; وغيره أصابه عذاب أليم .

وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } [ ص: 495 ] قالوا : فصاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملا فلا يكون له حسنة وأعظم الحسنات الإيمان فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار وقد أجابتهم المرجئة : بأن المراد بالمتقين من يتقي الكفر فقالوا لهم : اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب كقوله تعالى : { إن المتقين في جنات ونهر } { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وأيضا فابنا آدم حين قربا قربانا لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافرا وإنما كفر بعد ذلك ; إذ لو كان كافرا لم يتقرب وأيضا فما زال السلف يخافون من هذه الآية ولو أريد بها من يتقي الكفر لم يخافوا وأيضا فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر لا أصل له في خطاب الشارع فلا يجوز حمله عليه . و " الجواب الصحيح " : أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال : أخلصه وأصوبه قيل : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة فمن عمل لغير الله - كأهل الرياء - لم يقبل منه ذلك . كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل : { أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشركه } . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول } وقال : { لا يقبل الله صلاة [ ص: 496 ] حائض إلا بخمار } وقال في الحديث الصحيح : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } أي فهو مردود غير مقبول . فمن اتقى الكفر وعمل عملا ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه وإن صلى بغير وضوء لم يقبل منه لأنه ليس متقيا في ذلك العمل وإن كان متقيا للشرك . وقد قال تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } وفي حديث { عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب ؟ قال : لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه } .

وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور : وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم : أنا مؤمن " إن شاء الله " - وصليت - إن شاء الله - لخوف أن لا يكون آتى بالواجب على الوجه المأمور به لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق ; لا يجوز أن يراد بالآية : إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيا فإن كان قبول العمل مشروطا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة . بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير [ ص: 497 ] لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه . و " أيضا " فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات وهو حين أتى بها كان فاسقا .

و " أيضا " فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف - وكذلك الذمي إذا أسلم - قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه ; فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم ; بل يكون مع إسلامه مخلدا وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات . كما ثبت في الصحيح { أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وكان قد رافق قوما في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم وجاء فأسلم فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف دفعه المغيرة بالسيف فقال : من هذا فقالوا : ابن أختك المغيرة فقال يا غدر ألست أسعى في غدرتك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبله وأما المال فلست منه في شيء } وقد قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } وقالوا [ ص: 498 ] لنوح : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } { قال وما علمي بما كانوا يعملون } { إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون } . ولا نعرف أحدا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية