صفحة جزء
ومن يقول : اللذة في مجرد الإدراك والشعور . وهذا غلط باتفاق العقلاء بل لا بد من إدراك الملائم ; والملائمة لا تكون إلا بمحبة بين المدرك والمدرك وتلك المحبة والموافقة والملائمة ليست نفس إدراكه والشعور به . وقد قال كثير من الناس من الفلاسفة والأطباء ومن اتبعهم إن " اللذة " إدراك الملائم وهذا تقصير منهم بل اللذة حال يعقب إدراك الملائم ; كالإنسان الذي يحب الحلو ويشتهيه فيدركه بالذوق والأكل ; فليست اللذة مجرد ذوقه بل أمر يجده من نفسه يحصل مع الذوق فلا بد " أولا " من أمرين ; و " آخرا " من أمرين : لا بد " أولا " : من شعور بالمحبوب ; ومحبة له ; فما لا شعور به لا يتصور أن يشتهى وما يشعر به وليس في النفس محبة له لا يشتهى ثم إذا [ ص: 537 ] حصل إدراكه بالمحبوب نفسه حصل عقيب ذلك اللذة والفرح مع ذلك .

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور : { اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ; من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة } وفي الحديث الصحيح { إذا دخل أهل الجنة الجنة : نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ; فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه } رواه مسلم وغيره . فاللذة مقرونة بالنظر إليه ; ولا أحب إليهم من النظر إليه لما يقترن بذلك من اللذة ; لا أن نفس النظر هو اللذة . وفي " الجملة " فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله وحب الله ورسوله وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله ; ومعاداة الله ورسوله ليس إيمانا باتفاق المسلمين ; وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب إلا إذا كان القلب سليما من المعارض كالحسد والكبر لأن النفس مفطورة على حب الحق وهو الذي يلائمها . ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلا . وقد قال تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون } { إلا من أتى الله بقلب سليم } فليس مجرد [ ص: 538 ] العلم موجبا لحب المعلوم ; إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم وهذه القوة موجودة في النفس . وكل من القوتين تقوى بالأخرى فالعلم يقوي العمل والعمل يقوي العلم فمن عرف الله وقلبه سليم أحبه ; وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له ; وكلما ازداد حبه له ازداد ذكره له ومعرفته بأسمائه وصفاته ; فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب ; كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض فمن عادى الله ورسوله وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير ; وعن ذكر ما يوجب المحبة فيضعف علمه به حتى قد ينساه . كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وقال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة لكن تصديق ضعيف وعلم ضعيف ; ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنا .

فمن شرط الإيمان وجود العلم التام ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرا إذا كان مقرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته ; بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به . ولهذا يوصف من لم يعمل بعلمه بالجهل وعدم العلم . قال تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } قال أبو العالية : [ ص: 539 ] سألت أصحاب محمد عن هذه الآية ; فقالوا لي : كل من عصى الله فهو جاهل ; وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب . ومنه قول ابن مسعود كفى بخشية الله علما . وكفى بالاغترار بالله جهلا . وقيل للشعبي : أيها العالم فقال : العالم من يخشى الله وقد قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } . وقال أبو حيان التيمي : " العلماء ثلاثة " : عالم بالله ; وبأمر الله ; وعالم بالله ليس عالما بأمر الله وعالم بأمر الله ليس عالما بالله . فالعالم بالله الذي يخشاه . والعالم بأمر الله الذي يعلم حدوده وفرائضه . وقد قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } . وهذا يدل على أن كل من خشي الله فهو عالم . وهو حق ولا يدل على أن كل عالم يخشاه ; لكن لما كان العلم به موجبا للخشية عند عدم المعارض كان عدمه دليلا على ضعف الأصل إذ لو قوي لدفع المعارض .

وهكذا لفظ " العقل " يراد به الغريزة التي بها يعلم ويراد بها أنواع من العلم . ويراد به العمل بموجب ذلك العلم وكذلك لفظ " الجهل " يعبر به عن عدم العلم ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم } والجهل هنا هو الكلام الباطل بمنزلة الجهل المركب . ومنه قول الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

[ ص: 540 ] ومن هذا سميت " الجاهلية " جاهلية وهي متضمنة لعدم العلم أو لعدم العمل به ومنه { قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : إنك امرؤ فيك جاهلية لما ساب رجلا وعيره بأمه } وقد قال تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } . فإن الغضب والحمية تحمل المرء على فعل ما يضره وترك ما ينفعه وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره ، وترك ما يعلم أنه ينفعه ; لما في نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك لموجب العلم فدل على ضعف العلم لعدم موجبه ومقتضاه ولكن ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها وبغض ما يضرها فإذا حصل لها مرض ففسدت به أحبت ما يضرها وأبغضت ما ينفعها فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره .

" قلت " : هذا معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { : أن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات } رواه البيهقي مرسلا . وقد قال تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فوصفهم بالقوة في العمل والبصيرة في العلم وأصل القوة قوة القلب الموجبة لمحبة الخير وبغض الشر فإن المؤمن قوته في قلبه وضعفه في جسمه والمنافق قوته في جسمه وضعفه في قلبه فالإيمان لا بد [ ص: 541 ] فيه من هذين الأصلين : التصديق بالحق والمحبة له فهذا أصل القول وهذا أصل العمل . ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر ، والعمل الظاهر ضرورة كما تقدم فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان وكل ما سمي إيمانا فقد غلط بل لا بد من العلم والحب والعلم شرط في محبة المحبوب كما أن الحياة شرط في العلم ; لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم ونفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته ; لكن الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد وأن يحب لأجله رسوله ، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به ; فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبا له ولرسوله لم يكن مؤمنا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله . وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ; والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ; ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب . فكل منهما يؤثر في الآخر لكن القلب هو الأصل ، والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه . كما في الشجرة التي يضرب بها المثل لكلمة الإيمان . قال [ ص: 542 ] تعالى : { ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } وهي كلمة التوحيد والشجرة كلما قوي أصلها وعرق وروي قويت فرعها . وفروعها أيضا إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها .

وكذلك " الإيمان " في القلب و " الإسلام " علانية ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها : كما في قوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } فأخبر أن من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله ورسوله . بل نفس الإيمان ينافي مودتهم . فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان وكذلك قوله : { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } . وكذلك قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في قولهم : آمنا ودل ذلك على أن الناس في قولهم : آمنا صادق وكاذب والكاذب فيه نفاق بحسب كذبه . قال تعالى في المنافقين : [ ص: 543 ] { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } - إلى قوله - { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } وفي يكذبون قراءتان مشهورتان . وفي الحديث { أساس النفاق الذي يبنى عليه الكذب } وقال تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } وقال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } ومثل هذا كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية