صفحة جزء
فإن قال قائل ; اسم " الإيمان " إنما يتناول الأعمال مجازا قيل : " أولا " ليس هذا بأولى ممن قال : إنما تخرج عنه الأعمال مجازا بل هذا أقوى لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقرونا باسم الإسلام والعمل وأما دخول العمل فيه فإذا أفرد كما في قوله صلى الله عليه وسلم { الإيمان بضع وسبعون شعبة [ ص: 577 ] أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } فإنما يدل مع الاقتران أولى باسم المجاز مما يدل عند التجريد والإطلاق . وقيل له " ثانيا " لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن وموجب له ومقتضاه ; لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق والموجب التابع ؟ ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية : كاسم " الصلاة " و " الزكاة " و " الحج " ونحو ذلك هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية والحج الشرعي ومن قال إن الاسم إنما يتناول مما يتناوله عند الإطلاق في اللغة . وإن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى ومن وافقهما على أن الشرع زاد أحكاما شرعية جعلها شروطا في القصد ، والأعمال والدعاء ليست داخلة في مسمى الحج والصيام والصلاة فقولهم مرجوح عند الفقهاء وجماهير المنسوبين إلى العلم ; ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول .

فإذا قال قائل : إن اسم " الإيمان " إنما يتناول مجرد ما هو تصديق وأما كونه تصديقا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وكون ذلك مستلزما لحب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس دونه في الضعف فكذلك من قال : الأعمال الظاهرة [ ص: 578 ] لوازم للباطن لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء والشارع إذا قرن بالإيمان العمل فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه كما إذا قال من حج البيت وطاف وسعى ووقف بعرفة ورمى الجمار ; ومن صلى فقرأ وركع وسجد كما قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومعلوم أنه لم يكن صوما شرعيا إن لم يكن إيمانا واحتسابا . وقال : { من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه } ومعلوم أن الرفث الذي هو الجماع يفسد الحج والفسوق ينقص ثوابه وكما قال صلى الله عليه وسلم { من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا } . فلا يكون مصليا إن لم يستقبل قبلتنا في الصلاة وكما قال صلى الله عليه وسلم { خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له } فذكر المحافظ عليها ومعلوم أنه لا يكون مصليا لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها . ولكن بين أن الوعيد مشروط بذلك ولهذا لا يلزم من عدم المحافظة أن لا يصليها بعد الوقت فلا يكون محافظا عليها . إذ المحافظة تستلزم فعلها كما قال : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } نزلت لما أخرت العصر عام الخندق قال النبي صلى الله عليه وسلم { ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس } .

[ ص: 579 ] وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر ; ولهذا جاءت في " { الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا } وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى { أضاعوا الصلاة } قال هو تأخيرها عن وقتها فقيل له : كنا نظن ذلك تركها فقال : لو تركوها كانوا كفارا . والمقصود أنه قد يدخل في " الاسم المطلق " أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر . وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ; فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل ( قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك . [ ص: 580 ] وهو أيضا خطأ عقلا كما هو خطأ شرعا وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقى دليلا في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى وهذا حقيقة قولك فيقال لك : فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولا موجبا له ومن مقتضاه وذلك أن المقتضي لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره فإن ما كان معلولا للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره بل يلزم من وجوده وجوده فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب أن لا يتوقف على غيره بل إذا وجد الموجب وجد الموجب .

وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير وأمكن أن يكون موقوفا عليهما جميعا فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفا عليهما معا : على ذلك الغير وعلى الإيمان ; بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان ; كما في أعمال المنافق فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزما للإيمان ولا لازما له بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة ولا يكون الإيمان علة له ولا موجبا ولا مقتضيا فيبطل حينئذ أن يكون دليلا عليه لأن الدليل لا بد أن يستلزم المدلول وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزما للإيمان النافع عند الله . ولهذا { قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد لما قال : هو مؤمن . قال أو [ ص: 581 ] مسلم ؟ } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } فدل ذلك على أن مجرد إظهار الإسلام لا يكون دليلا على الإيمان في الباطن إذ لو كان كذلك لم تحتج المهاجرات اللاتي جئن مسلمات إلى الامتحان ودل ذلك على أنه بالامتحان والاختبار يتبين باطن الإنسان فيعلم أهو مؤمن أم ليس بمؤمن ; كما في الحديث المرفوع : { إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله يقول : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } الآية } . فإذا قيل : الأعمال الظاهرة تكون من موجب الإيمان تارة ، وموجب غيره أخرى ; كالتكلم بالشهادتين : تارة يكون من موجب إيمان القلب وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين قال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } .

ونحن إذا قلنا : هي من ثمرة الإيمان إذا كانت صادرة عن إيمان القلب لا عن نفاق قيل : فإذا كانت صادرة عن إيمان إما أن يكون نفس الإيمان موجبا لها وإما أن تقف على أمر آخر فإذا كان نفس الإيمان موجبا لها ثبت أنها لازمة لإيمان القلب معلولة لا تنفك عنه وهذا هو المطلوب ; وإن توقفت على أمر آخر كان الإيمان جزء السبب جعلها ثمرة للجزء الآخر ومعلولة له إذ حقيقة الأمر أنها معلولة لهما وثمرة لهما . فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة [ ص: 582 ] له إلا إذا كان موجبا لها ومقتضيا لها وحينئذ فالموجب لازم لموجبه ، والمعلول لازم لعلته وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة ; بل يلزم من وجود هذا كاملا [ وجود هذا كاملا ] كما يلزم من نقص هذا نقص هذا ; إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه وعلة تامة بلا معلولها وهذا ممتنع .

وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في " الإيمان " كالأشعري في أشهر قوليه وأكثر أصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة : كالماتريدي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد وأنه إما أن يعدم ، وإما أن يوجد لا يتبعض وأنه يمكن وجود الإيمان تاما في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعا من غير إكراه وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر ; فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب في الأفعال وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب ; بل يوجد إيمان القلب تاما بدونها فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه : ( أحدها ) : أنهم أخرجوا ما في القلوب من حب لله وخشيته ونحو ذلك [ ص: 583 ] أن يكون من نفس الإيمان . و ( ثانيها ) جعلوا ما علم أن صاحبه كافر - مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب وغيرهم - أنه إنما كان كافرا ; لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن وهذا مكابرة للعقل والحس ، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزما لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك . و ( ثالثها ) : أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله ، والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعا لحقيقة الإيمان الذي في القلب ، ويكون صاحب ذلك مؤمنا عند الله حقيقة سعيدا في الدار الآخرة ، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام . و ( رابعها ) : أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته يكون مؤمنا بالله تام الإيمان سعيدا في الدار الآخرة .

وهذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم . و ( خامسها ) : وهو يلزمهم ويلزم المرجئة أنهم قالوا : إن العبد قد يكون مؤمنا تام الإيمان إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين ولو لم يعمل خيرا لا صلاة ولا صلة ولا صدق حديث ولم يدع كبيرة إلا ركبها فيكون [ ص: 584 ] الرجل عندهم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وهو مصر على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود لا يسجد لله سجدة ، ولا يحسن إلى أحد حسنة ، ولا يؤدي أمانة ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان ، إيمانه مثل إيمان الأنبياء ، وهذا يلزم كل من لم يقل إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن فإذا قال : إنها من لوازمه وأن الإيمان الباطن يستلزم عملا صالحا ظاهرا كان بعد ذلك ، قوله : إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان أو جزء منه ( نزاعا لفظيا كما تقدم ) . و ( سادسها ) : أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعا وألقى المصحف في الحش عمدا ، وقتل النفس بغير حق وقتل كل من رآه يصلي وسفك دم كل من يراه يحج البيت ; وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين يجوز أن يكون مع ذلك مؤمنا وليا لله ، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين ; لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافيا لهذه الأمور وإما ألا يكون منافيا ; فإن لم يكن منافيا أمكن وجودها معه فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن .

وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه فلا يكون مؤمنا في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن وإذا كانت الأعمال والتروك [ ص: 585 ] الظاهرة لازمة للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته وتزيد بزيادته وتنقص بنقصانه فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه ولا ينقص إلا بنقصان ذلك ; فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن فيكون دليلا على زيادة الإيمان الباطن ونقصه لنقص الباطن فيكون نقصه دليلا على نقص الباطن وهو المطلوب . وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق ; الذي لا عدول عنه ; وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية