فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة : لا قول ولا عمل وهو المطلوب - وذلك تصديق - وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتا استلزم موالاة أوليائه [ ص: 646 ] ومعاداة أعدائه { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } فهذا التلازم أمر ضروري . ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون ; كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع وبينا : أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهام ليست إرادة جازمة وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد والعفو وقع عمن هم بسيئة ولما يفعلها ; لا عن من أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما ; فإن هذا يعاقب ; لأنه أراد وفعل المقدور من المراد ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها .
بقي أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط أو له ولفروعه ؟ . والتحقيق : أن الاسم المطلق يتناولهما وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران وقد لا يتناول إلا الأصل إذا لم يخص إلا هو ; كاسم الشجرة فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن وواجب [ ص: 647 ] ومستحب وهو حج أيضا تام بدون المستحبات وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم . والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب ; بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه ; لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام : قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب ; كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم : إلى كامل ومجزئ فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=29843لا إيمان لمن لا أمانة له } و { nindex.php?page=hadith&LINKID=23829لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } . ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه ; لا لانتفاء الكمال المستحب .
[ ص: 650 ] فصل : وأما قوله : هل يكون لأول حصوله سبب ؟ فلا ريب أنه يحصل بسبب مثل استماع القرآن ومثل رؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم ومثل معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته والنظر في ذلك ومثل النظر في آيات الله تعالى ومثل التفكر في أحوال الإنسان نفسه ومثل الضروريات التي يحدثها الله للعبد التي تضطره إلى الذل لله والاستسلام له واللجوء إليه وقد يكون هذا سببا لشيء من الإيمان وهذا سببا لشيء آخر ; بل كل ما يكون في العالم من الأمور فلا بد له من سبب وسبب الإيمان وشعبه يكون تارة من العبد وتارة من غيره مثل من يقيض له من يدعوه إلى الإيمان ومن يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويبين له علامات الدين وحججه وبراهينه وما يعتبره وينزل به ويتعظ به وغير ذلك من الأسباب .
[ ص: 651 ] فصل : وأما قوله : فالأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد ؟ أو بالعلم ؟ أو بالعبادة ؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ فيقال : له لا بد من الإيمان الواجب والعبادة الواجبة والزهد الواجب ثم الناس يتفاضلون في الإيمان ; كتفاضلهم في شعبه وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه ويقدم ما يقدر على تقديمه من الفاضل . والناس يتفاضلون في هذا الباب : فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له وهو في حقه أفضل ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا إذا كان متعذرا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع ; كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته والصلاة تثقل عليه ولا ينتفع منها بعمل أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة . [ ص: 652 ] فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه بل على وجه ناقص ويفوته به ما هو أنفع له ; ومعلوم أن الصلاة آكد من قراءة القرآن وقراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء ومعلوم أيضا أن الذكر في فعله الخاص : كالركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن في ذلك المحل وأن الذكر والقراءة والدعاء عند طلوع الشمس وغروبها خير من الصلاة . والزهد هو ضد الرغبة وهو كالبغض المخالف للمحبة والكراهة المخالفة للإرادة وكل من الإرادة والكراهة له أقسام في نفسه وفي متعلقه فالزهد ( فيه انقسام : إلى المزهود فيه وإلى نفس الزهد .
أما الأول : فإن الزهد وأما نفس الزهد الذي هو ضد الرغبة وهو الكراهة والبغض فحقيقة المشروع منه أن يكون كراهة العبد وبغضه وحبه تابعا لحب الله وبغضه ورضاه وسخطه فيحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله ويرضى ما يرضاه ويسخط ما يسخطه الله بحيث لا يكون تابعا هواه بل لأمر مولاه فإن كثيرا من الزهاد في الحياة الدنيا أعرضوا عن فضولها ولم يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله وليس مثل هذا الزهد يأمر الله به ورسوله ولهذا كان في المشركين زهاد وفي أهل الكتاب زهاد وفي أهل البدع زهاد . [ ص: 653 ] ومن الناس من يزهد لطلب الراحة من تعب الدنيا ومنهم من يزهد لمسألة أهلها والسلامة من أذاهم ومنهم من يزهد في المال لطلب الراحة إلى أمثال هذه الأنواع التي لا يأمر الله بها ولا رسوله وإنما يأمر الله ورسوله أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله ويرغب فيما يحبه الله ورسوله فيكون زهده هو الإعراض عما لا يأمر الله به ورسوله أمر إيجاب ولا أمر استحباب سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا مستوي الطرفين في حق العبد ويكون مع ذلك مقبلا على ما أمر الله به ورسوله وإلا فترك المكروه بدون فعل المحبوب ليس بمطلوب وإنما المطلوب بالمقصود الأول فعل ما يحبه الله ورسوله وترك المكروه متعين كذلك به تزكو النفس ; فإن الحسنات إذا انتفت عنها السيئات زكت فبالزكاة تطيب النفس من الخبائث وتعظم في الطاعات كما أن الزرع إذا أزيل عنه الدغل زكا وظهر وعظم .