فأجاب - رضي الله عنه - نعم هذا المعنى مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة مثل ما في موطأ مالك وسنن أبي داود والنسائي وغيره عن مسلم بن يسار وفي لفظ عن نعيم بن ربيعة { nindex.php?page=hadith&LINKID=596509أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } الآية فقال عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت [ ص: 66 ] هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة . وإذا خلق الرجل للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار } .
وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وهو قد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها فلو قال هذا : إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق ; لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب فلو قال : إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر كان جاهلا ضالا ; لأن الله علم أن سيكون بذلك وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلا بد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها .
[ ص: 69 ] وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا شقيا في الآخرة قلنا : ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء فالله علم أنه يشقى بهذا العمل فلو قيل : هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا ; لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ومن اتبع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله .
وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته فمن قدر أن يكون منهم يسره للإيمان والطاعة . فمن قال : أنا أدخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة .
ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب . ومن قال : أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا ; لأن الله جعل الدعاء [ ص: 70 ] والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه . وإذا قدر للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات .
ولهذا قال بعضهم : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب ; فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك [ كافيا ] في حصول النبات بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه ; فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج بل كم من أنزل ولم يولد له ; بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع .
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس : " فريق " آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة وهؤلاء يئول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه .
وهو سبحانه مع غناه عن العالمين خلقهم وأرسل إليهم رسولا يبين لهم ما يسعدهم وما يشقيهم ثم إنه هدى عباده المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فمن عليهم بالإيمان والعمل الصالح فخلقه بفضله وإرساله الرسول بفضله وهدايته لهم بفضله وجميع ما ينالون به الخيرات من قواهم وغير قواهم هي بفضله فكذلك الثواب والجزاء هو بفضله وإن كان أوجب ذلك على نفسه كما حرم على نفسه الظلم ووعد بذلك كما قال : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقال تعالى : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } فهو واقع لا محالة واجب بحكم إيجابه ووعده [ ص: 73 ] لأن الخلق لا يوجبون على الله شيئا . أو يحرمون عليه شيئا بل هم أعجز من ذلك وأقل من ذلك وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل كما في الحديث المتقدم { nindex.php?page=hadith&LINKID=47429إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } .
[ ص: 74 ] فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشيئين : أن يحرص على ما ينفعه وهو امتثال الأمر وهو العبادة وهو طاعة الله ورسوله وأن يستعين بالله وهو يتضمن الإيمان بالقدر : أنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته كما يزعم القدرية والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه لكل شيء . ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد ويسر له ذلك كان محمودا سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده واستحق من غضبه وعقابه أعظم ما يستحقه الأول .
فكل عمل يعمله العبد ولا يكون طاعة لله وعبادة وعملا صالحا فهو باطل فإن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله وإن نال بذلك العمل رئاسة ومالا فغاية المترئس أن يكون كفرعون وغاية المتمول أن يكون كقارون . وقد ذكر الله في سورة القصص من قصة فرعون وقارون ما فيه عبرة لأولي الألباب . وكل عمل لا يعين الله العبد عليه فإنه لا يكون ولا ينفع فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم فلذلك أمر العبد أن يقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } .