[ ص: 222 ] ( الفرق السادس ) : أن
ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقا لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه ، فإنه خلقه لعبادته وحده ، ودل عليه الفطرة ، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه عوقب على ذلك ، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي .
قال تعالى {
اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } - إلى قوله - {
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال تعالى : {
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } {
إنما سلطانه على الذين يتولونه } الآية .
وقال تعالى : {
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } {
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } . فتبين أن
الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان . كما قال تعالى : {
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فكان إلهامه لفجوره عقوبة له وعدم فعل الحسنات ليس أمرا موجودا حتى يقال : إن الله خلقه ، ومن تدبر القرآن تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل ، كقوله تعالى : {
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } الآية .
وقال تعالى : {
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقال : {
وأما من بخل واستغنى } {
وكذب بالحسنى } {
فسنيسره للعسرى } وهذا وأمثاله يذكر فيه أعمالا عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور ، ولا بد لهم من حركة وإرادة ; فلما لم يتحركوا بالحسنات حركوا
[ ص: 223 ] بالسيئات عدلا من الله ، كما قيل : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل .
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي
القدرية المكذبة
والمجبرة . الذين يقولون : خلقها لذلك ، والتعذيب لهم ظلم . يقال لهم : إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم ، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم ، يقال ظلمته إذا نقصته حقه ، قال تعالى : {
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا }
. وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم ، ويقولون : خلق طاعة المطيع ; لكن ما خلق شيئا من الذنوب ابتداء ; بل جزاء . فيقولون : أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله ، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شيء ، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له ، والعدم لا يضاف إلى الله ، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم ، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد ، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم ، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركا ، والشيطان مسلط عليه .
ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله ، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل ، ولهذا يقول تعالى : {
والله يختص برحمته من يشاء } وكذلك الفضل هو أعلم به ، كما خص بعض الأبدان
[ ص: 224 ] بقوى لا توجد في غيرها ، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية ، وغير ذلك من حكمته ، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب . ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى {
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } هذا من تمام قوله : {
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة ، وهذا عدم الإيمان ; لكن يقال : هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، وقد كذبوا وتركوا الإيمان ، وهذه أمور وجودية ; لكن الموجب هو عدم الإيمان ، وما ذكر شرط في التعذيب ، كإرسال الرسول ، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة إلا لأنه شغله عن الإيمان ، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه ، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك .