فأجاب : الحمد لله - أصل هذا الكلام له مقدمتان : ( إحداهما ) : أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح ، ويحب الحسنات ويرضاها ، ويكرم أهلها ، ويثيبهم ويواليهم ، ويرضى عنهم ، ويحبهم ويحبونه ، وهم جند الله المنصورون ، وحزب الله الغالبون ، وهم أولياؤه المتقون ، وحزبه المفلحون ، وعباده الصالحون أهل الجنة ، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، وهم أهل الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان ، وهو يبغض ذلك ويمقت أهله ، ويلعنهم ويغضب عليهم ، ويعاقبهم ويعاديهم ، وهم أعداء الله ورسوله ، وهم أولياء الشيطان ، وهم أهل النار [ ص: 236 ] وهم الأشقياء . لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق ، وعاص ليس بكافر ولا فاسق . و ( المقدمة الثانية ) : أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه . لا رب غيره ; ولا خالق سواه ، وأنه ما شاء كان ; وما لم يشأ لم يكن ; لا حول ولا قوة إلا به ; ولا ملجأ منه إلا إليه ; وأنه على كل شيء قدير .
فجميع ما في السماوات والأرض : من الأعيان وصفاتها ; وحركاتها ; فهي مخلوقة له ; مقدورة له ; مصرفة بمشيئته ، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه ; ولا يشركه في شيء من ذلك غيره ; بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ; له الملك وله الحمد ; وهو على كل شيء قدير ، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء ، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين ; فمن يهده الله فلا مضل له ; ومن يضلل فلا هادي له .
فإذا ثبتت هاتان " المقدمتان " . فنقول : إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته ، أعانه وهداه ، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة ، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله ; ولم يستعن به ، ولم يتوكل عليه ، وكل إلى حوله وقوته . فيوليه الشيطان ، وصد عن السبيل ، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره ; لا يخرج أحد عن القدر المقدور ، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ ، وليس لأحد على الله [ ص: 237 ] حجة ; بل { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل .
وعلى العبد أن يؤمن بالقدر ، وليس له أن يحتج به على الله ; فالإيمان به هدى ; والاحتجاج به على الله ضلال وغي ، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا ; صبورا على البلاء ، شكورا على الرخاء ، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره ، سواء كانت النعمة حسنة فعلها ، أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها ، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات ، وهو الذي تفضل بالثواب عليها ، فله الحمد في ذلك كله .
. قالوا : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب ، ولا يحتج على الله بالقدر ، ولا يقول : أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب ; بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب ، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته ، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه ; لكن العبد هو الذي أكل الحرام ، وفعل الفاحشة ، [ ص: 238 ] وهو الذي ظلم نفسه ; كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد ، فهو الموصوف بهذه الأفعال ; وهو المتحرك بهذه الحركات ، وهو الكاسب بهذه المحدثات ، له ما كسب وعليه ما اكتسب ، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة .
قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } . فعلى العبد أن يصبر على المصائب ، وأن يستغفر من المعائب . والله تعالى لا يأمر بالفحشاء ، ولا يرضى لعباده الكفر ; ولا يحب الفساد ، وهو سبحانه خالق كل شيء ; وربه ومليكه ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . فمن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ; ومشيئة العبد للخير والشر موجودة ، فإن العبد له مشيئة للخير والشر ، وله قدرة على هذا وهذا .
وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي ; فيتنازعون هذا يقول : قل كل من عند الله ، وهذا يقول الحسنة من الله ، والسيئة من نفسك ، وكلاهما أخطأ في فهم الآية ; فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات ، النعم والمصائب . كما في قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء . ومعنى الآية في المنافقين : كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية .
قالوا : هذا من الله ، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا : هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس ، وابتلينا لأجله بهذه المصائب ، فقال الله تعالى : { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر ، وما أصابك من نعمة : نصر وعافية ورزق فمن الله ، نعمة أنعم الله بها عليك ، وما أصابك من سيئة : فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك ، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك .
فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت ، والله خالق ذلك كله ، وإنما مرض بسبب أكله ، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم . فإن شرب الترياق النافع عافاه الله ، فالذنوب كأكل السم ، والترياق النافع كالتوبة النافعة ، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال ، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة ، فإذا تاب تاب عليه ، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه .
ومن قال : إنه يشاء شيئا من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب ; بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر ، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا ، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، والإيمان بالقدر خيره وشره ، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . [ ص: 241 ]
ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة ، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول ، بل هؤلاء الضالون . كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم ، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه ، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر ، بل يقابلوه بالحق والباطل ، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء ، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم ; وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه ، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه .
وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر ، فصبر واحتسب ، وإذا أساء هو تاب واستغفر .
كما قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب ، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر ، ولا يصبر على ما أصابه ، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة ; والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة . والله سبحانه أعلم .