ومعلوم أن
الواحد بعد موته إذا قال : اللهم فشفعه في وشفعني فيه - مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له - كان هذا كلاما باطلا ; مع أن
عثمان بن العتبية لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ولا أن يقول فشفعه في ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه وإنما أمره ببعضه وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة ; فلو قال بعد موته " فشفعه في " لكان كلاما لا معنى له ولهذا لم يأمر به
عثمان . والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد
الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من
[ ص: 279 ] الصحابة عليه - وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه - لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول .
ولهذا نظائر كثيرة : مثل ما كان
ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء ويأخذ لأذنيه ماء جديدا وكان
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء ويقول : من استطاع أن يطيل غرته فليفعل وروي عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول هو موضع الغل . فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعا لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا : سائر
الصحابة لم يكونوا يتوضئون هكذا . والوضوء الثابت عنه صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين ولا مسح العنق ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع أن يطيل غرته فليفعل . بل هذا من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة جاء مدرجا في بعض الأحاديث وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=70214إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء } وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : من استطاع أن يطيل غرته فليفعل وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة وهذا لا معنى له فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل وإنما في اليد والرجل الحجلة . والغرة لا يمكن إطالتها فإن الوجه
[ ص: 280 ] يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس والحجلة لا يستحب إطالتها وإطالتها مثلة .
وكذلك
ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحبا ولم يستحب ذلك جمهور العلماء ; كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر
الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل وغيرهم لم يفعلوا مثل ما فعل
ابن عمر . ولو رأوه مستحبا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به . وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول
الكعبة وأن يستلم
الحجر الأسود وأن يصلي خلف
المقام وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة
مسجد المدينة وقصد الصعود على
الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك وكذلك
عرفة ومزدلفة وغيرهما .
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصدا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه - فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي
[ ص: 281 ] كان ينهى عنها
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ; كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث
شعبة عن
سليمان التيمي عن
المعروف بن سويد قال : كان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون : صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال
عمر : إنما هلك
أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض . فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى
عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع
أهل الكتاب التي هلكوا بها ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه
باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب .
وهذا هو الأصل فإن
المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة : هل فعلها استحبابا أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها وكذلك نزوله
بالمحصب عند الخروج من
منى لما اشتبه : هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة ؟ تنازعوا في ذلك . ومن هذا وضع
ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وتعريف
ابن عباس بالبصرة وعمرو بن زاذان بالكوفة فإن هذا لما لم يكن
[ ص: 282 ] مما يفعله سائر
الصحابة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته ; لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة ; بل غايته أن يقال : هذا مما ساغ فيه اجتهاد
الصحابة أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أو يقال في التعريف : إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة .
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله : تارة يكرهونه وتارة يسوغون فيه الاجتهاد وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة ولا يقول عالم بالسنة : إن هذه سنة مشروعة للمسلمين . فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع ; وما سنه
خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه ولا يكون في الدين واجبا إلا ما أوجبه ولا حراما إلا ما حرمه ولا مستحبا إلا ما استحبه ولا مكروها إلا ما كرهه ولا مباحا إلا ما أباحه . وهكذا في الإباحات كما استباح
أبو طلحة أكل البرد وهو صائم واستباح
حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع . وغيرهما من
الصحابة لم يقل بذلك فوجب الرد إلى الكتاب والسنة . وكذلك الكراهة والتحريم مثل كراهة
عمر وابنه للطيب قبل الطواف
بالبيت وكراهة من كره من
الصحابة فسخ الحج إلى التمتع أو التمتع مطلقا ;
[ ص: 283 ] أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده وأنه لا يقصر بدون ذلك ; أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر .
ومن ذلك قول
سلمان : إن الريق نجس وقول
ابن عمر : إن الكتابية لا يجوز نكاحها وتوريث
معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر ومنع
عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم وقول
علي وزيد وابن عمر في المفوضة : إنه لا مهر لها إذا مات الزوج وقول
علي وابن عباس في المتوفى عنها الحامل : إنها تعتد أبعد الأجلين وقول
ابن عمر وغيره : إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال . وقول
ابن عمر وغيره : لا يجوز الاشتراط في الحج وقول
ابن عباس وغيره في المتوفى عنها : ليس عليها لزوم المنزل وقول
عمر وابن مسعود : إن المبتوتة لها السكنى والنفقة . وأمثال ذلك مما تنازع فيه
الصحابة فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول ونظائر هذا كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .