. أخبر سبحانه أن ما يدعى من دونه ليس له مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شرك في ملك ولا إعانة على شيء . وهذه الوجوه الثلاثة : هي التي ثبت بها حق الغير ; فإنه إما أن يكون مالكا للشيء مستقلا بملكه أو يكون مشاركا له فيه نظير أو لا ذا ولا ذاك فيكون معينا لصاحبه : كالوزير والمشير والمعلم والمنجد والناصر فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك لمثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير ; فلا [ ص: 520 ] يملكون شيئا ; ولا لهم شرك في شيء ; ولا له سبحانه ظهير : وهو المظاهر المعاون فليس له وزير ولا مشير ولا ظهير .
وحينئذ : فالغلاء بارتفاع الأسعار ; والرخص بانخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده ; ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته ; لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث كما جعل قتل القاتل سببا في موت المقتول ; وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس ولهذا أضاف من أضاف من القدرية المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس وبنوا على ذلك أصولا فاسدة : ( أحدها : أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى . [ ص: 521 ]
و ( الثاني : إنما يكون فعل العبد سببا له يكون العبد هو الذي أحدثه . و ( الثالث : أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب . وهذه الأصول باطلة ; فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ; ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها ; وهم مع ذلك يقولون : إن العباد لهم قدرة ومشيئة وإنهم فاعلون لأفعالهم ; ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب وما خلق الله من الحكم .
و " مسألة القدر " مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس " طائفة " أنكرت أن يكون الله خالقا لكل شيء ; وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما أنكرت ذلك المعتزلة . و " طائفة " أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله ; وأن تكون لهم قدرة لها تأثير في مقدورها ; أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره وأن يكون الله خلق شيئا لحكمة كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذين نسب كثير منهم إلى السنة ; والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر .
و ( الأصل الثاني : وهو إنما كان فعل العبد أحد أسبابه : كالشبع [ ص: 522 ] الذي يكون بسبب الأكل وزهوق النفس الذي يكون بالقتل فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلا للعبد والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه تأثيرا بل ما تيقنوا أنه سبب قالوا : إنه عنده لا به وأما السلف والأئمة فلا يجعلون العبد فاعلا لذلك كفعله لما قام به من الحركات فلا يمنعون أن يكون مشاركا في أسبابه وأن يكون الله جعل فعل العبد مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك .
. و ( الأصل الثالث : أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض بل قد يكون سببه قلة ما يخلق أو يجلب من ذلك المال المطلوب فإذا كثرت الرغبات في الشيء وقل المرغوب فيه : ارتفع سعره فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره والقلة والكثرة قد لا تكون بسبب من العباد وقد تكون بسبب لا ظلم فيه وقد تكون بسبب فيه ظلم والله تعالى يجعل الرغبات في القلوب . فهو سبحانه كما جاء في الأثر : قد تغلوا الأسعار والأهواء غرار وقد ترخص الأسعار والأهواء فقار .