[ ص: 524 ] وسئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه . عما قاله أبو حامد الغزالي - في كتابه المعروف " بمنهاج العابدين " في زاد الآخرة من العقبة الرابعة : وهي العوارض بعد كلام تقدم في التوكل بأن الرزق مضمون - قال : فإن قيل هل يلزم العبد طلب الرزق بحال فاعلم أن الرزق المضمون هو الغذاء والقوام فلا يمكن طلبه إذ هو شيء من فعل الله بالعبد كالحياة والموت لا يقدر العبد على تحصيله ولا دفعه .
وأما المقسوم من الأسباب فلا يلزم العبد طلبه إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله . وأما قوله تعالى { وابتغوا من فضل الله } المراد به العلم والثواب وقيل : بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر فيكون بمعنى الإباحة ; لا بمعنى الإيجاب والإلزام . فإن قيل : لكن هذا الرزق المضمون له أسباب هل يلزم منا طلب الأسباب قيل : لا يلزم منك طلب ذلك إذ لا حاجة بالعبد إليه إذ الله سبحانه يفعل [ ص: 525 ] بالسبب وبغير السبب فمن أين يلزمنا طلب السبب ثم إن الله ضمن ضمانا مطلقا من غير شرط الطلب والكسب قال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه : إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله ( و لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه من أين حصل له ؟ فلا يصح تكليفه فتأمل - راشدا - فإنه بين ثم حسبك أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم وتجردوا للعبادة وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى ولا عاصين له في ذلك فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد .
فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام والمنصوص عليه في كتب الأئمة : كالفقه وغيره ؟ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق وطلب سببه وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلا عنه وجب عليه طلبه منه فإن منعه قهره وإن قتله . فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد ؟ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين ; مثابين ; مأجورين ; وابسطوا لنا القول .
فأجاب - رضي الله عنه - [ ص: 526 ] الحمد لله رب العالمين ; هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس .
ويروى عن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يا nindex.php?page=showalam&ids=1584أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم } . ولهذا قال بعض السلف : ما احتاج تقي قط . يقول : إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجا مما يضيق على الناس وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون فيدفع عنهم ما يضرهم ويجلب لهم ما يحتاجون إليه . فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا فليستغفر الله وليتب إليه ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=596654من [ ص: 527 ] أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب }
. و ( المقصود : أن الله لم يأمر بالتوكل فقط بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر وترك ما حذر فمن ظن أنه يرضي ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل كان ضالا بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض . وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل . وإذا قرن أحدهما بالآخر كان للتوكل اسم يخصه . كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول فإن " التقوى " إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول .
وقد يعطف أحدهما على الآخر كقول نوح عليه السلام { اعبدوا الله } وكذلك قوله : { اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } وأمثال ذلك . وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع كقوله تعالى : { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } وقول شعيب : { عليه توكلت وإليه أنيب } فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته وطاعة رسوله والعبد لا يكون مطيعا لله ورسوله - فضلا أن يكون من خواص أوليائه المتقين - إلا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ويدخل في ذلك التوكل . [ ص: 528 ]
وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره ; فإن الله خلق المخلوقات بأسباب وشرع للعباد أسبابا ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابا لها . فهو غالط فالله سبحانه وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لا بد أن يرزقه ما عمر فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله .
و " أيضا " فقد يرزقه حلالا وحراما فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالا وإذا ترك ما أمره به فقد يرزقه من حرام . ومن هذا الباب الدعاء والتوكل ; فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير [ ص: 531 ] له في حصول مطلوب ولا دفع مرهوب ولكنه عبادة محضة ولكن ما حصل به حصل بدونه وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة .
وما قدره الله بالدعاء والتوكل والكسب وغير ذلك من الأسباب إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون بمنزلة من يقول هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون فالله قدر موته بهذا السبب فلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته ودعائه وتوكله وعمله الصالح وكسبه فلا يحصل إلا به وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ . ولو قال القائل : أنا لا آكل ولا أشرب فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب كان أحمق كمن قال : أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدا تحمل من غير ذكر .
وأما قول القائل : إن الغذاء والقوام هو من فعل الله فلا يمكن طلبه كالحياة فليس كذلك هو بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت ; فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله ; فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله ; وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به ; قال تعالى في داود عليه السلام { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم } وقال تعالى : { سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } وقال تعالى : { فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } وهذا مثل دفع الحر والبرد عنا هو من فعل الله فاللباس والاكتساب ومثل دفع الجوع والعطش هو من فعل الله بالطعام والشراب [ ص: 534 ] وهذا كما أن إزهاق الروح هو من فعل الله ويمكن طلبه بالقتل وحصول العلم والهدى في القلب هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء .
وقول القائل إن الله يفعل بسبب وبغير سبب فمن أين يلزمنا طلب السبب . جوابه أن يقال له : ليس الأمر كذلك بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب ; لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد ; ومنها ما يكون مقدورا له ومن الأسباب ما يفعله العبد ; ومنها ما لا يفعله . والأسباب منها " معتاد " ومنها " نادر " فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح فهو أيضا سبب من الأسباب .
ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق ; فمن الناس من يأتيه برزقه جني أو ملك أو بعض الطير والبهائم ; وهذا نادر والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم : إما صدقة وإما هدية ; أو نذرا . وإما غير ذلك مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم . [ ص: 535 ]
وقول القائل : إن الله ضمن ضمانا مطلقا . فيقال له : هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب ; فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات ومع هذا فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه . وقول القائل : كيف يطلب ما لا يعرف مكانه ؟ جوابه : أنه يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته مثل الذي يشق الأرض ويلقي الحب ويتوكل على الله في إنزال المطر وإنبات الزرع ودفع المؤذيات وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها وبذل الثمن الذي يربح به فهذا [ ص: 536 ] ليس مقدورا للعبد ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه والطلب لا يتوجه إلى شيء معين بل إلى ما يكفيه من الرزق كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين .
فصل فإذا عرف ذلك : فمن الكسب ما يكون واجبا مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه أو عياله أو قضاء دينه وهو قادر على الكسب ; وليس هو مشغولا بأمر أمره الله به ; هو أفضل عند الله من الكسب فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء ; وإذا تركه كان عاصيا آثما . ومنه ما يكون مستحبا : مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به ; فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=50883على كل مسلم صدقة قالوا : يا رسول الله فمن لم يجد .
وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها كان الصديق تاجرا ; وكان يأخذ ما يحصل له من المغنم ; ولما ولي [ ص: 538 ] الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان وقد أخرج ماله كله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=596662ما تركت لأهلك ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله } ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئا لا صدقة ولا فتوحا ولا نذرا بل إنما كان يعيش من كسبه . بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانا أنه يقتدي بالصديق ; وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق بل في المسند : " أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه ، ولا يقول لأحد ناولني إياه ويقول إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئا " .
ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصا وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات ; وهو طريق أنبياء الله وقد أمر العباد بسؤاله فقال : { واسألوا الله من فضله } ومدح [ ص: 539 ] الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة . ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب .
ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقي في النار قال له جبرائيل : هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا قال : سل قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي .