وهذا الصنيع يتضمن نفي الدين : المعنى أوصلته إليه وفي غيره اعتذرت إليه أو ألقيت إليه وضمن معنى ألقيت إليه البراءة كما يقال : ألقى إليه القول { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } ومنه قوله تعالى { وكلمته ألقاها إلى مريم } فالتبري قول يلقى إلى المخاطب فعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بالبراءة . والخطيب لم يرد هذا المعنى بل أراد أنه بريء من أن يلجئ ظهره إلا إلى الله ويفوض أمره إلا إلى الله ويتوجه في أمره إلا إلى الله ويرغب في أمره إلا إلى الله .
وهنا معنى ثالث : وهو أن يقال : أبرأ من الحول والقوة إلا به أي أبرأ من أن أتبرأ وأعتقد وأدعي حولا أو قوة إلا به فإنه لا حول ولا قوة إلا به وهذا معنى صحيح لكن الخطيب قصد المعنى الأوسط الذي يدل لفظه [ عليه ] فإنه من له حول وقوة يلجأ إليه ويستند إليه فضمن معنى الحول والقوة معنى الالتجاء فصار التقدير أبرأ من الالتجاء إلا إليه وعلى [ ص: 553 ] هذا الحال فالجار والمجرور متعلق بمعنى الالتجاء الذي دل عليه لفظ الحول والقوة لا معنى أبرأ ولما ظن المنكر على الخطيب أن الجار والمجرور متعلق بلفظ أبرأ أنكر الاستثناء ولو أراد الخطيب هذا لكان حذف حرف الاستثناء هو الواجب لكن لم يرده بل أراد ما لا يصح إلا مع الاستثناء والاستثناء مفرغ فرغ ما قبل الاستثناء لما بعده والمفرغ يكون من غير الموجب لفظا أو معنى .
فإن مقصوده أن يتبرأ مما سوى الله ليس مقصوده أن يتبرأ إليه لكن الخطيب قصد البراءة من الالتجاء إلا إليه والالتجاء إليه داخل في عبادته فهو بعض ما دل عليه قول إبراهيم فإن الواجب أن يتبرءوا من أن يعبدوا إلا الله أو يتوكلوا إلا عليه وهذا تحقيق التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب لكن الإنسان قد يكون مقصوده إخلاص العبادة في مسألته ودعائه والتوكل عليه والالتجاء إليه ; وهذا هو المعنى الذي قصده الخطيب وهو معنى صحيح يدل عليه لفظه بحقائق دلالات الألفاظ والمنكر قصد معنى صحيحا ; والمستدل قصد معنى صحيحا لكن الإنسان لا ينوي كثيرا من نفي ما لا يعلم إلا من إثبات ما يعلم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .