صفحة جزء
وأما ما يذكرونه من العلوم النظرية: فالصواب منها منفعته في الدنيا . وأما " العلم الإلهي " فليس عندهم منه ما تحصل به النجاة والسعادة بل وغالب ما عندهم منه ليس بمتيقن معلوم بل قد صرح أساطين الفلسفة : أن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين وإنما يتكلم فيها بالأحرى والأخلق ; فليس معهم فيها إلا الظن { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } ولهذا يوجد عندهم من المخالفة للرسل أمر عظيم باهر حتى قيل مرة لبعض الأشياخ الكبار ممن يعرف الكلام والفلسفة والحديث وغير ذلك : ما الفرق الذي بين الأنبياء والفلاسفة ؟ فقال : السيف الأحمر . يريد أن الذي يسلك طريقتهم يريد أن يوفق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الرسل فيدخل من السفسطة والقرمطة في أنواع من المحال الذي لا يرضاه عاقل كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم . ومن هنا ضلت القرامطة والباطنية ومن شاركهم في بعض ذلك . وهذا باب يطول وصفه ليس الغرض هنا ذكره .

وإنما ( الغرض أن معلمهم وضع منطقهم ليزن به ما يقولونه من هذه الأمور التي يخوضون فيها والتي هي قليلة المنفعة . وأكثر منفعتها : إنما هي في الأمور الدنيوية وقد يستغنى عنها في الأمور الدنيوية أيضا .

فأما أن يوزن بهذه الصناعة ما ليس من علومهم وما هو فوق قدرهم أو يوزن بها ما يوجب السعادة والنعيم والنجاة من العذاب الأليم : فهذا أمر ليس هو فيها وقد جعل الله لكل شيء قدرا . والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة ; وفيهم زهد وأخلاق - فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة : من الإيمان بالله وتوحيده وإخلاص عبادته ; والإيمان برسله واليوم الآخر ; والعمل الصالح .

وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة . فالذي يؤتى فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول يكون بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول .

وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له ; ويؤمن برسله وباليوم الآخر .

وهذه الأمور متلازمة . فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمن برسله ويؤمن باليوم الآخر ; فيستحق الثواب وإلا كان من أهل الوعيد يخلد في العذاب هذا إذا قامت عليه الحجة بالرسل .

ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل وقد يتابعونهم ; ذكر الله ذلك في كتابه في غير موضع . فذكر فرعون ; والذي حاج إبراهيم في ربه لما آتاه الله الملك والملأ من قوم نوح وعاد وغيرهم من المستكبرين المكذبين للرسل وذكر قول علمائهم كقوله : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } وقال تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } - إلى قوله - { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } والسلطان هو الوحي المنزل من عند الله كما ذكر ذلك في غير موضع كقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } وقوله : { ما أنزل الله بها من سلطان } وقال ابن عباس " كل سلطان في القرآن فهو الحجة " ذكره البخاري في صحيحه .

وقد ذكر في هذه السورة " سورة حم غافر " من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء مثل مقول الفلاسفة وعلمائهم ومجادلتهم واستكبارهم ما فيه عبرة : مثل قوله : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } ومثل قوله : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون } { في الحميم ثم في النار يسجرون } - إلى قوله - { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } وختم السورة بقوله تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } .

وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب الأمثال والمقاييس لهم وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم . فقال سبحانه : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } فأخبر بما مكنهم فيه من أصناف الإدراكات والحركات . وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم حيث جحدوا بآيات الله وهي الرسالة التي بعث بها رسله . ولهذا حدثني ابن الشيخ الحصيري عن والده الشيخ الحصيري - شيخ الحنفية في زمنه - قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا : كان كافرا ذكيا .

وقال الله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض } الآية والقوة تعم قوة الإدراك النظرية وقوة الحركة العملية . وقال في الآية الأخرى : { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض } فأخبر بفضلهم في الكم والكيف وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض . وقال تعالى : { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } وقال تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } - إلى قوله - { الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } .

وقال تعالى : { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } - إلى قوله - { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } .

وقد قال سبحانه عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } وقال تعالى : { وإذ يتحاجون في النار } - إلى قوله - { إن الله قد حكم بين العباد } .

ومثل هذا في القرآن كثير يذكر فيه من أقوال أعداء الرسل وأفعالهم وما أوتوه من قوى الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل .

وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى أتباع الرسل من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } .

{ ويصدون عن سبيل الله } يستعمل لازما يقال : صد صدودا أي أعرض كما قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } ويقال : صد غيره يصده والوصفان يجتمعان فيهم ومثل قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة : طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة : طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة : ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة : طعمها مر ولا ريح لها } " فبين أن في الذين يقرءون القرآن : مؤمنين ومنافقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية