فصل قولهم : " إنه
لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس " - الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية ليست معلومة بالبديهة ولم يذكروا عليها دليلا أصلا . وصاروا مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم . إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم ; فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته .
[ ص: 103 ] ثم هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي وحينئذ فيأتي ما تقدم في التصورات من أن الفرق بينهما إنما هو بالنسبة والإضافة فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره . والبديهي من التصديقات ما يكفي تصور طرفيه - موضوعه ومحموله - في حصول تصديقه فلا يتوقف على وسط يكون بينهما وهو الدليل - الذي هو الحد الأوسط - سواء كان تصور الطرفين بديهيا أم لا ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان .
فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة . وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين فإن كثيرا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال . ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالا .
[ ص: 104 ] وقد ذكر المناطقة أن
القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحواس يختص بها من علمها ولا تكون حجة على غيره ; بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع وهذا تفريق فاسد وهو أصل من أصول الإلحاد والكفر . فإن المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها . يقول أحد هؤلاء : بناء عن هذا الفرق هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة علي وليس ذلك بشرط ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث من الآثار النبوية ; فإن هؤلاء يقولون : إنها غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار أن معجزات الأنبياء غير معلومة له ; وهذا لكونهم لم يعلموا السبب الموجب للعلم بذلك والحجة قائمة عليهم تواتر عندهم أم لا .