قوله تعالى:
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ومن أظهر التعيير: إظهار السوء وإشاعته في قالب النصح وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عاما أو خاصا وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه، في مواضع، فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلا وقولا حسنا وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن، وعد ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة،
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وقال تعالى:
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه ما سألهم عنه .
[ ص: 273 ] كذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه -، وحديثه بذلك مخرج في "الصحيحين " .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت هذه الآية .
فهذه الخصال،
خصال اليهود والمنافقين، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولا أو فعلا، وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن، ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه، ويفرح بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء، وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيئ، فتتم له الفائدة وتنفذ له الحيلة بهذا الخداع!! .
ومن كانت هذه صفته فهو داخل في هذه الآية ولا بد، فهو متوعد بالعذاب الأليم، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذم رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه أو لعداوته، أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني، مثل: أن يكون قد رد قولا ضعيفا من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظم ذلك العالم، أن فلانا يبغض هذا العالم ويذمه ويطعن عليه فيغر بذلك كل من يعظمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال
العرب، لأنه ذب عن ذلك العالم، ورفع الأذى عنه، وذلك قربة إلى
[ ص: 274 ] الله تعالى وطاعته فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرمين:
أحدهما: أن يحمل رد هذا العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى، وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين، وإظهار ما لا يحل له كتمانه من العلم .
والثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع، وبمثل هذه المكيدة كان ظلم
بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفرون قلوبهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=35والحسن nindex.php?page=showalam&ids=17والحسين وذريتهم - رضي الله عنه أجمعين .
وأنه لما قتل
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان - رضي الله عنه - لم تر الأمة أحق من
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - رضي الله عنه - فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه، بأن أظهر تعظيم قتل
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان وقبحه، وهو في نفس الأمر كذلك، ضم إلى ذلك أن المؤلب على قتله والساعي فيه
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - رضي الله عنه -، وهذا كان كذبا وبهتا .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - رضي الله عنه - يحلف ويغلظ الحلف على نفي ذلك، وهو الصادق البار في يمينه - رضي الله عنه -، وبادروا إلى قتاله ديانة وتقربا ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجمع وغيرها من المجامع العظيمة، حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه، وأن
بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان ، وأخذهم بثأره، فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم، وقتالهم لعلي وولده من بعده، ويثبت بذلك لهم الملك، واستوثق لهم الأمر .
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاما ما معناه: "لم يكن أحد
[ ص: 275 ] من الصحابة أكفأ عن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان من
nindex.php?page=showalam&ids=8علي " فيقال له: لم يسبونه إذا; فيقول: "إن الملك لا يقوم إلا بذلك " .
ومراده أنه لولا تنفير قلوب الناس عن علي وولده ونسبهم إلى ظلم
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم، لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة، فكانوا يسرعون إلى متابعتهم ومبايعتهم فيزول بذلك ملك أمية . وينصرف الناس عن طاعتهم .
* * *
ومن هذا الباب - أيضا - أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله ويثنى عليه بها، ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرا حسنا في الظاهر، وأحب المدح عليه وقصد به في الباطن شرا، وفرح بتمويه ذلك وترويجه على الخلق . وهذا يدخل في قوله تعالى:
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب الآية . فإن هذه الآية إنما نزلت فيمن هذه صفاته، وهذا الوصف - أعني: طلب المدح من الخلق ومحبته والعقوبة على تركه - لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له، ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أعمالهم وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لاشريك له، فإن النعم كلها منه .
[ ص: 276 ] وكان
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابا يقرأ عليهم، وفيه الأمر بالإحسان إليهم، وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب: "ولا تحمدوا على ذلك كله إلا الله، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري " .
وحكايته مع المرأة التي طلبت منه أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات، ففرض لثنتين منهن، وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته فقال: إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة . أو كما قال –رضي الله عنه - .
أراد أن يعرف أن ذا الولاية إنما هو منتصب لتنفيذ أمر الله، وآمر العباد بطاعته تعالى، وناه لهم عن محارم الله، ناصح لعباد الله بدعائهم إلى الله . فهو يقصد أن يكون الدين كله لله، وأن تكون العزة لله، وهو مع ذلك خائف من التقصير في حقوق الله تعالى - أيضا - . فالمحبون لله غاية مقاصدهم من الخلق أن يحبوا الله ويطيعوه . ويفردوه بالعبودية والإلهية، فكيف من يزاحمه في شيء من ذلك; فهو لا يريد من الخلق جزاء ولا شكورا، وإنما يرجو ثواب عمله من الله كما قال الله تعالى:
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653189 "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، [ ص: 277 ] فقولوا: عبد الله ورسوله " .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينكر على من لا يتأدب معه في الخطاب بهذا الأدب، كما قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=678622 " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" . nindex.php?page=hadith&LINKID=683275وقال: لمن قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " .
فمن هنا كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم ألبتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية، ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده .
وكان بعض الصالحين يتولى القضاء ويقول: ألا أتولاه لأستعين به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولهذا كانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله . ويتحملون في تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون، بل راضون بذلك، فإن المحب ربما يتلذذ بما يصيبه من الأذى في رضى محبوبه . كما كان
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يقول لأبيه في خلافته إذا حرص على تنفيذ الحق وإقامة العدل: يا أبت، لوددت أني غلت
[ ص: 278 ] بي وبك القدور في الله عز وجل .
وقال بعض الصالحين: وددت أن جسمي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل، فعرض قوله على بعض العارفين فقال: إن كان أراد بذلك النصيحة للخلق وإلا فلا أدري، ثم غشي عليه .
ومعنى هذا: أن صاحب هذا القول قد يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله، وأحب أن يفديهم من عذاب الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته وما يستحقه من الإجلال والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق قاموا بذلك، وإن حصل له في نفسه غاية الضرر . وهذا هو مشهد خواص المحبين العارفين بملاحظته فغشي على هذا الرجل العارف .
وقد وصف الله تعالى في كتابه أن المحبين له يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم .
وفي ذلك يقول بعضهم:
أجد الملامة في هواك لذيذة . حبا لذكرك فليلمني اللوم