وبعد أن دعاهم الله تعالى إلى التفكير في أمر النبي الصادق الأمين دعاهم إلى النظر في الكون؛ ليؤمنوا بالله وحده، فقال تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون .
عقيدة الإيمان الإسلامية شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله، وأنه الصادق الأمين، وقد بين سبحانه في الآية السابقة أن صدق
محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابت عند المشركين لصحبته لهم قبل أن ينادي بأنه رسول رب العالمين، ولم تتغير حاله
[ ص: 3020 ] بعد الدعوة وليس به جنون كما ادعيتم، ولكنه حمل الرسالة بالإنذار والتبشير لكم فلا مسوغ لكم في تكذيبه، وقد علمتم من ماضيه فيكم أنه الصادق، وتأيد صدقه بالمعجزة الباهرة القاهرة فيكون كل ما جاء به حقا.
وإنه إذا ثبتت المعجزة - وإنها ثابتة لا محالة - فقد ثبت كل ما جاء به ودعا إليه من التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا.
وقد أخذ - سبحانه وتعالى - يثبته بالأدلة الكونية، وقد دعاهم - سبحانه - إلى النظر في الكون، وما خلق من شيء فقال تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الملكوت صيغة مبالغة في الملك، وهي تدل على كمال السلطان وقوة الملك، وأن كل شيء في هذا الملكوت لا يسير إلا بأمر الله تعالى ونهيه - سبحانه وتعالى - والاستفهام للتعجب من أمر المشركين الذين هبط حالهم إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضر، وهو ملقى ككل الحجارة الملقاة، ولا ينظرون إلى الكون العظيم وخالقه، لا ينظرون إلى السماء وأبراجها والشمس وضوئها، والقمر ونوره، وتعاقب الليل والنهار، ولا إلى الأرض وسهولها وأوتادها
وما خلق الله من شيء والأشياء التي خلقها الله تعالى من حيوان وجماد وفلزات في باطن الأرض لا ينظرون إلى ذلك ويسجدون للصنم، ويجعلونه إلها كخالق هذا الكون، وخالق الوجود كله! إن هذا قصور في الفكر والعقل، وضلال في القول والعمل، وخبط في العبادة من غير إدراك.
وقوله تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الفعل فيها عطف على فعل محذوف تقديره: أيشركون بالله أصناما، ويجعلونها أندادا له - سبحانه وتعالي - ولم ينظروا إلى خلق الله وعظم هذا الخلق، والأثر يدل على المؤثر، والمخلوق يدل على الخالق سبحانه، وهذا الكلام فيه دعوة إلى النظر في الكون
وما خلق الله من شيء في السماء والأرض، فقد قال تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وقال تعالى:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت [ ص: 3021 ] وإلى الأرض كيف سطحت
وقال تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون
وهكذا يجب ابتداء النظر إلى الكون وما فيه، وإلى النفس الإنسانية وما هي، ومم تكونت، ولقد أمر الله تعالى في الآية بالنظر إلى مآل الإنسان، وأنه داع إلى الاعتبار، ولا يمكن أن يكون قد خلق عبثا، فقال تعالى:
عسى أن يكون قد اقترب أجلهم و"أن" هنا مخففة من "أن" الثقيلة، وإنها ضمير الشأن، أي: وأنه الحال والشأن أن يكون قد اقترب أجلهم.
والله - سبحانه وتعالى - يذكرهم بضرورة النظر إلى الموت، وإلى أن الأجل الذي أقت لحياتهم انتهى، وهذا التذكير فيه فوائد:
أولاها - أن
غرور الحياة يدفع إلى الطغيان فيها ، فينهوي إلى ضلالها، فإذا ذكر بالموت علم أنها فانية فيقل طغيانه وغروره بها، وتلك نافذة إلى الإيمان.
ثانيها - أن
تذكر الموت يدفع إلى التفكير في قيمة الحياة ، فإذا عرف قيمتها عرف قيمة الدنيا; ولذلك كان بعض الصالحين إذا عزى في وفاة قال: اللهم انفعنا بالموت؛ لأنه عبرة وفيه إنذار بالنهاية، فإن لم يؤمن باليوم الآخر فالحياة تكون لغير غاية.
ثالثها - أن
التفكير في الموت والنظر فيه يدفع إلى الإيمان باليوم الآخر ، وأن حياته ليست عبثا كما قال تعالى:
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون إنها آيات الله البينات، فيها عبرة وعظة لقوم يؤمنون.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك في استفهام تعجبي:
فبأي حديث بعده يؤمنون الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره: إذا لم يؤمنوا بالله الخالق المنشئ المدبر وآياته الدالة عليه، ولا في الموت النازل بهم لا محالة - إذا لم يؤمنوا بذلك فبأي حديث يحدثون به يؤمنون؟!
[ ص: 3022 ] والاستفهام إنكاري توبيخي، هو نفي لإيمانهم بأي حديث مهما يكن، وذلك فيه توبيخ، وفيه إثبات أن أمثال هؤلاء لا يؤمنون بشيء، وفقدت قوة الإيمان بأي أمر، ومن فقد أصل الإيمان بالأشياء فهو حائر بائر ضال لا يهتدي; ولذا قال الله تعالى بعد ذلك:
من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون
إن من لا يؤمن بشيء كتب الله تعالى عليه الضلالة; لأنه سلك طريق الغي، واتخذه سبيلا، فسار فيه من غير تبصر، وبذلك كتب الله تعالى عليه الضلال، وعبر عنه بأن الله أضله، فإن الله لا يكتب الضلالة إلا لمن سار في طريقها، واختار سبيل الغي، ولم يختر سبيل الهدى، وإن من يكتب الله تعالى عليه الضلالة - لا هادي له؛ لأنه ارتكس في الشر، ولم ينقذه الله تعالى منه؛ لأنه اختاره، ولذا قال تعالى: