فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا المناسك : جمع منسك وهو العبادة ; أي إذا أديتم عباداتكم التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهها ،
[ ص: 626 ] وكما شرعها ربكم ، فاملئوا قلوبكم بثمرتها ، وهي ذكر الله دائما وعمران القلوب به ، فهو غاية العبادة ومرماها ; وذكر الله دائما في كل الأعمال والأقوال هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ; فإن
المرء إذا عمر قلبه بذكر ربه آناء الليل وأطراف النهار - ما أقدم على معصية ، وما آذى مخلوقا ، وما أفسد مجتمعا ، وما ظلم وما بغى ; ولذلك قال سبحانه :
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر
ولذلك
طالب سبحانه الحجاج بأن يذكروا الله كذكرهم آباءهم ، فإن المرء لا ينسى أباه ، وإذا كان لا ينسى أباه لأنه كان السبيل الذي وصل به إلى هذا الوجود ، فليذكر خالق أبيه وخالقه وخالق كل من في هذا الوجود .
وإن
ذكر الله سبحانه يقتضي أن يغضب المؤمن لعصيان الله في الأرض ; لأن ذلك اعتداء على محارم الله ; ومن اعتدى على محارم الآباء قوتل فمن اعتدى على محارم خالق الآباء أولى أن يقاتل ويحارب ; وقد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن قوله تعالى :
فاذكروا الله كذكركم آباءكم فقيل له : قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر أباه فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ليس كذلك ، ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما ، ففسر
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه الآية بلازمها ونتيجتها وغايتها إذ إن نتيجة ذكر الله دائما الغضب عندما تنتهك محارم الله سبحانه وتعالى ، وإن الله طالب بأن نذكره كذكر آبائنا أو أشد ذكرا أي اذكروه سبحانه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا من آبائكم ، و " أو " في معنى الإضراب والترقي ، أي أنه يطالبهم سبحانه بأن يذكروه كما يذكرون آباءهم ، ثم يترقى في معاني التقرب منه ، فيطالبهم بأن يكونوا أشد ذكرا له من آبائهم ; وكأن لطالب الهداية درجتين : أولاهما ، أن يكون ذكره لله كذكره الآباء ، فيغضب لمحارمه كما يغضب لشتم أبويه ، ثم تترقى حاله في مراتب التهذيب الروحي والنفسي ، فيكون أشد ذكرا لله فيغضب لمحارمه أكثر مما يغضب لشتم الآباء .
وفي الآية فوق هذه المعاني السامية تعريض بما كان يفعله أهل الجاهلية من قيامهم بعد يوم النحر في الأسواق يتفاخرون بالأنساب والآباء ; كما تروي كتب
[ ص: 627 ] الأدب عما كان يجري من المسابقات الشعرية في الفخر والغزل في
سوق عكاظ .
ولقد استبدل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه المفاخرة خطبة استعرض فيها أمر الإسلام وذكر بعض أحكامه ليقتدي من بعده الأمراء فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث
أبي نضرة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=703236حدثني من سمع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق ، فقال : " يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق بعد أن بين سبحانه وتعالى
ما يجب على الناس أن يذكروه عقب القيام بمناسك الحج ، وهو أن يذكروه هو وحده ، وينسوا أهواءهم وشهواتهم ويغضبوا لمحارم ربهم ، بين ما يقع من الناس ; فذكر أنهم طائفتان : طائفة تذكر الدنيا ، ولا يدعون الله بعد مناسك الحج إلا بما يشبع رغباتهم وأهواءهم ، ولا يذكرون الآخرة ، كأن العبادة في نظرهم ليست إلا ذريعة لطلب الشهوات أو الرغبات ، أو مصالحهم الشخصية في الدنيا ; وفريق يذكر الدنيا والآخرة ; وقد ذكر الفريق الأول بقوله :
فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا الفاء هنا للإفصاح ، أي إذا كان ذلك أمر الله فالناس ليسوا جميعا سواء في طاعته ، فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا ، وقد حذف المفعول للفعل آتنا للدلالة على تعميم المطلوب ، فهم يطلبون كل ما يمكن أن يصل إليهم ; ومن طلب الدنيا لا يفرق بين هوى يرديه ، وصالح يقيمه ; ومعنى
وما له في الآخرة من خلاق أي لا نصيب لهم . وخلاصة المعنى : أن هؤلاء يلجأون إلى ربهم لينيلهم حظهم من الدنيا ، راغبين في كل ما فيها لأنها همهم ، ولا شيء سواها في نفوسهم ، ولا غاية عندهم غيرها ، وليس لهم أي نصيب في الآخرة .