قال تعالى:
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون
إن هذه الآيات الكريمات تبين أمرين:
أحدهما: أن المنافقين في كل العصور يطاولون الناس بأموالهم، ويجبنون دائما، ويستبدلون بالجهاد المال يدفعونه،
[ ص: 3331 ] ويحسبون أنه يغني عن الجهاد والعمل للنصرة وصيانة الحق عن أن يعبث به العابثون.
ثانيهما - أنه لا ثواب إلا مع النية المحتسبة، والنية لا تكون إلا مع إيمان صادق بالله ورسوله والحق الثابت المبين.
وقد ذكرت الآية الأولى أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يقبل منهم بسبب فسقهم، وذكرت الآية التالية تفصيل المانع من قبولها، وذكرت الآية الثالثة أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم في الدنيا والآخرة شيئا، وذكرت الآية الرابعة أنهم يريدون أن يعتقد المؤمنون أنهم منهم ومنضوون في جماعتهم ليخدعوهم فلا يغروهم، متميزين عنهم تميز الخبيث من الطيب.
يقول تعالى:
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم المعنى الظاهر - وكتاب الله تعالى بين بذاته لا يحتاج إلى بيان - أن الله تعالى لن يقبل منهم إنفاقهم في الآخرة سواء أنفقوه طائعين أم أكرهوا على الإنفاق، وسواء أنفقوه كارهين أم أنفقوه راغبين، فمعنى طوعا أي طائعين راغبين في الإنفاق طيبة به نفوسهم أو كارهين غير راغبين، أو بإكراه أحد، أو بتورط، ولا يرضون.
وهذا المعنى ظاهر، ولكن كيف يخرج الأمر في هذا، وبلا شك لا يقصد الطلب ولا الإباحة ولا الندب، ولا أي باب من أبواب الطلب، وإذن فما سبيله؟!
قال
القرطبي : إن معناه الشرط، وجوابه لن يقبل، وتقدير القول هكذا: إن تنفقوا لا يقبل منكم سواء كان الإنفاق طوعا أو كرها.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إن معنى الأمر هنا الإخبار بأنهم لا يقبل منهم، ويظهر أنه يعود إلى معنى الشرط، والمؤدى ينتهي إلى أنه لن يقبل الإنفاق، ومثلوا له بقول
كثير عزة - ولكلام الله تعالى المثل الأعلى -:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقد بين السبب في منع قبول أموالهم قربات عند الله، فقال سبحانه:
[ ص: 3332 ] إنكم كنتم قوما فاسقين
وجملة (إنكم) منفصلة عن سابقتها; لأنها تعليل لها، ولأن الجملة الأولى طلبية والثانية خبرية.
والفسق هو الخروج، وهم بالحكم عليهم بأنهم فاسقون يكون محكوما عليهم بأنهم خارجون عن الجماعة بشعورهم، وإن كانوا فيها بأجسامهم، وذلك مع كفرهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات:
أولها بالجملة الاسمية، وثانيها بـ(إن) الحرف الدال على التوكيد، وثالثها بـ(كان) الدالة على استمرارهم في الفسق والخروج عن الجماعة وعدم الشعور بشعورها.
ونفي الله تعالى بقوله:
أن تقبل منهم ظاهره أن الله تعالى لن يجازي عليه جزاء القربات يوم القيامة; لأنهم لم ينووا بها التقرب، وإنما أرادوا ستر جبنهم ونفاقهم؛ ليستقيم ادعاؤهم أنهم من المسلمين، وهم غير مؤمنين، وشرط النية المأجورة الإيمان، ولقد قال تعالى عما ينفقه الكافرون:
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون
وهل يقبل النبي منهم ما يدفعونه مغرما؟ إن الأمر في ذلك متروك للنبي - صلى الله عليه وسلم -