قال تعالى:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم النفاق أصناف وضروب، يعلو وينزل، وأعلاه من يظهر الإيمان بالله ويبطن الكفر، وهؤلاء كانوا
بالمدينة ، وعلا شأن الإسلام، فكان من اليهود
[ ص: 3339 ] والوثنيين هؤلاء الذين أعلنوا الإسلام خوفا وأبطنوا الكفر؛ غيظا وعداوة وبغضا، ومن النفاق ألا يستقر الإيمان في قلبه كأولئك الأعراب الذين قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
ومن الأعراب من كانوا يأخذون ظواهر القرآن ولا يطيعون، كما قال تعالى:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله وكل هؤلاء تشملهم كلمة المنافقين، ولذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق; لأن عمله يناقض قوله، فكما أن من ينكر بقلبه ويؤمن بلسانه منافق، فكذلك من يعلن الإيمان ويصدق بقلبه ولكن يناقض عمله قوله، والإيمان - كما يقول الجمهور من علماء العقائد - اعتقاد وعمل، وهو الإيمان الكامل عند جميع العلماء اتفقوا عليه.
بعد هذا نتكلم في معنى النص الكريم:
ومنهم من يلمزك في الصدقات اللمز: العيب، فالرجل الهمزة أو المرأة اللمزة العياب والعيابة، واللمز يشمل العيب باللفظ الصريح، ويشمل العيب بالتعريض والتلميح، والوخز في الكلام: وقال تعالى:
ويل لكل همزة لمزة وقالوا: إن اللمزة من يعيب في وجه من يعيبه ولو بلحن القول، والهمزة من يعيب في غيبه وفي غير محضره ولا يواجه من يعيبه.
والضمير في (منهم) يعود إلى المنافقين، و(من) تدل على التبعيض، وإنه عمل بعضهم، ويظهر أنه ليس من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، بل هو من الذين يعبدون الله على حرف، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى:
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
وكذلك هؤلاء المنافقون الذين عابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الله تعالى فيهم:
فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون
(الفاء) تدل على أن ما بعدها بيان أو إشارة إلى نوع عينهم، وهو بيان لنفوسهم إن أعطوا من المال بحق رضوا واطمأنوا، وقالوا: إنها قسمة عادلة، واستقاموا على الطريقة، وإن لم يعطوا لعدم استحقاقهم سخطوا فهم طامعون في
[ ص: 3340 ] أن يأخذوا بغير حق.
و(إذا) تدل على أن سخطهم أمر لا يرتبط بمنطق الأمور، فهم فاجئوا أهل الحق به، والدليل على المفاجأة (إذا) فهي تدل على المفاجأة. والمفاجأة تدل على أنه غير منطقي; لأن من يرضى بالحق عند العطاء لا يصح أن يغضب إن منع بحق، ولكن النفس المنافقة تريد دائما أن تحتجز الخير لنفسها، ولا تلتفت إلى حق غيرها، فآية المؤمن أن يعرف حق غيره كما يعرف حق نفسه، ومن علامة المنافق النفسية ألا يفكر في حق غيره، فكل من لا يلتفت إلى حق غيره فيه
nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة من نفاق.
ومما روي في معنى هذه الآية ممن كانوا يلمزون في الصدقات
أن أبا الجواظ من المنافقين في أعلى درجات النفاق قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل!!
وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له وقد فهم أنه يعيب رعاة الغنم قال له: "لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود" فلما ذهب أبو الجواظ هذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون".
وقد وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله.
وروي في الصحيحين عن
أبي سلمة nindex.php?page=hadith&LINKID=658773أن ذا الخويصرة - واسمه حرقوص - اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قسم غنائم حنين، فقال: اعدل فإنك لم تعدل! فقال صلوات الله وسلامه عليه: "قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" ثم قال: "إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء". [ ص: 3341 ] ولقد روي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكم، وإنما أنا خازن " هذا بعض ما روي عن الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - في أولئك المنافقين الذين كانوا يلمزون أطهر من في الوجود في الصدقات.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن
الصدقات غير الغنائم ، فالغنائم تقسيم أموال لمستحقيها بمعنى الغنم والفتح، يأخذها الفاتحون بملكية تثبت لهم بمقتضى الجهاد، أما الصدقات فإنها تكون معونات تعطى لمصارف معينة يحتاج إليها أهلها.