[ ص: 728 ] ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( 222
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من شئون الأسرة كيف يختار الزوج ، وكيف يصطفي عشير الحياة ، وأن الأساس هو الدين والفضيلة في الاختيار ، لا جاه الدنيا ولا أحسابها ولا أنسابها ; لأن العشرة الحسنة تقوم على الفضيلة ومكارم الأخلاق ، لا على الاستعلاء بالنسب ، والتفاخر بالحسب .
وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى العشرة الحسنة ، وقد تصدى فيها القرآن الكريم لبيان النزاهة البدنية في العلاقة الطبيعية التي يتقاضاها الطبع السليم بين الرجل والمرأة ، والتي بها يعمر الكون ، ويبقى الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الأرض خليفة .
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصايا كريمة في أمرين ، وتشير هذه الوصايا إلى بعض مقاصد الزواج العليا ; ثم ذكر حكما شرعيا قاطعا في أمر ينفذ فيه بحكم القضاء ، لا بحكم التدين المجرد .
أما الأمران اللذان جاءت فيهما الوصايا الكريمة المرشدة الهادية ، العفيفة النزهة ، فهما يتعلقان بمباشرة الحائض ، والنهي عنه ، وبالمقصد من الزواج وملاحظته عند المسيس وقضاء الوطر الجنسي ، وهو النسل القوي ذو الخلق الكريم ، والأمر الثالث الذي ينفذ بحكم القضاء هو الامتناع عن العلاقة الفطرية الطبيعية مضارة وإيذاء لامرأته بأيمان يحلفها للضرر والإيذاء ، فقد حكم فيه الشارع حكما مقررا ،
[ ص: 729 ] وهو الفرقة بعد الامتناع أمدا معلوما ; ونؤجل الكلام في هذا الأمر إلى موضعه من تفسير الآيات الكريمات التي تصدت لحكمه ، ونكتفي هنا ببيان الوصايا في الأمرين الأولين .
ويسألونك عن المحيض السؤال كان من المؤمنين ، ولم يكن من غيرهم ; لأنهم أرادوا أن يعلموا حكم دينهم في أخص شئونهم ; ولأنهم أدركوا بقوة وجدانهم الديني أن الإسلام مرشد إلى الأمر الصالح في كل شيء وفي كل الأمور ، ما دق منها وما جل ، بل ما خص منها وما عم ، وليس أي شأن من الشؤون الخاصة إلا له صلة بالشؤون العامة ; لأن الإنسان ليس شيئا قائما بذاته منفردا عن غيره مفصولا عن سواه ، بل هو جزء من كل ، موصول بما عداه ، فالأجزاء تتلاقى فتكون ذلك المجموع وتربطه بروابط من الفضيلة ، فما من خصوص للآحاد إلا له صلة وثيقة بعموم الجماعة ; ومن فصل الأمور الشخصية عن الأمور العامة لم يفهم علاقة الإنسان بالإنسان ولم يفهم قانون الجماعات وسر الاجتماع .
من أجل هذا المعنى سأل المؤمنون عن هذا الأمر الخاص الذي يتصل بأدق العلاقة بين الرجل والمرأة .
والمحيض مشتق من الحيض ، وأصله بمعنى السيل ; يقال : حاض السيل بمعنى فاض ، ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في حال فراغه من الحمل ; والمحيض قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري فيه : إنه مصدر ميمي : مجيء ، ومبيت ، وعلى ذلك يكون السؤال عن المحيض أي عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة عند وجوده . وقد يراد منه اسم الزمان ، ويكون السؤال عن
حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في وقته ، وقد يراد منه اسم المكان من حيث العلاقة في مكان الحيض وهو جهاز المرأة التناسلي .
والظاهر أن السؤال عن حكم العلاقة عند وجود الدم وكل التخريجات السابقة تصلح لذلك وكلها تحتاج إلى تأويل محذوف مقدر وهو السؤال عن الحكم ، وكل التقديرات تنتهي إلى معنى واحد وما جرى بين المفسرين من خلاف في هذا هو
[ ص: 730 ] خلاف لفظي لا جدوى - من حيث المعنى - فيه ، ولماذا كان السؤال ؟ ألم يكن من مقتضى الفطرة أن يعلموا الجواب ؟ نعم لقد كان من مقتضى الفطرة أن يعلموا أن الحيض أذى في كل أحواله ، وأنه يعتزل موضعه إبان ظهوره ; ولكن أهل الديانات السماوية التي كانت تصاقب أماكنهم في بلادهم من اليهود والنصارى قد اختلفوا ، ما بين متشددين في شأن الحائض ، ومتسامحين في شأنها ; فالنصارى ما كانوا يفرقون بين حائض وغير حائض في المعاملة والمباشرة ; واليهود كانوا يشددون عليها وعلى أنفسهم في المعاملة فيتجنبونها اجتنابا تاما ، ولا يعتزلونها في المباشرة وحدها ، بل يعزلونها في كل الأحوال عن أنفسهم عزلا كاملا ، حتى ليعتبرون كل ما مسته يكون نجسا ، ومن يمسها يكون نجسا ، وكأنها تكون من الأنجاس في هذه المدة .
وكان من العرب من تأثروا بطريق اليهود ، ومنهم من سلكوا مسلك النصارى ، فسألوا عن حكم الإسلام إلى أي الطريقين يتجه ، فكان الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وكان بين ذلك قواما ; فأباح المعاملة ومنع المباشرة .
قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن أجاب الله سبحانه وتعالى بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب به
هو أذى أي هذا الدم الذي يلفظه الرحم أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسميا ; فرائحته ، يتأذى منها من يشمها ، وهو قذر في ذاته ، وهو فوق ذلك أذى نفسي للرجل والمرأة معا ; فالمرأة لا تكون في حال تستسيغ معها المباشرة ; بل إنها تكون متقززة منها في هذه الحال نافرة إلا في الأحوال الشاذة والصور النادرة ، وجهازها التناسلي يكون في حال اضطراب ، فتتألم من كل مباشرة ، وأعصابها وأحوالها وعامة شئونها تكون في حال تتأذى معها
[ ص: 731 ] من كل اتصال جنسي ; والرجل يتأذى نفسيا ; إذ يكون خليطه في حال نفرة بل بغض لما يقدم عليه ; ثم إن المباشرة في هذه الحال لا يتحقق معها القصد الأسمى وهو النسل ; فإن المرأة في هذه الحال لا تكون صالحة للإنسال .
وإذا كان موضع الحيض أو الحيض نفسه شيئا يتقزز منه ، فإن الوصية الواجبة في حاله هي الاعتزال ; ولذا قال سبحانه مرتبا الوصية على تلك الحال التي يتأذى منها :
فاعتزلوا النساء في المحيض أي اعتزلوهن في وقت الحيض ، والمراد بالاعتزال الامتناع عن المباشرة ; وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن المراد بالاعتزال هو اعتزال الفراش ، وهو في ذلك أقرب إلى مسالك اليهود ; ولكن تلك الرواية شاذة لا يلتفت إليها ، ولا تنقض إجماع العلماء على أن المراد بالاعتزال هو الامتناع عن المباشرة ، لا ترك الفراش وتجنب النوم معها على فراش واحد ; فقد أجمع العلماء وتضافرت الروايات على أن المنهي عنه فقط هو المباشرة نفسها .
ولعل تلك الرواية المروية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه تتجه إلى أن اعتزال الفراش بأن ينام في مكان وهي في مكان إنما هو للاحتياط حتى لا يكون اتحاد الفراش مؤديا إلى ذلك الأمر الممنوع .
ولئن أخذنا بهذه الرواية لكان تحريم المباشرة لذاته ، وتحريم الاجتماع في المبيت على فراش واحد لغيره ; لأنه يؤدي إلى الممنوع لذاته .
ويلاحظ في نسق الكلمات السامية
قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض أنه قد قدم السبب على المسبب ، والعلة على المعلول ; فإن سبب الوصية بالاعتزال هو كون المحيض أذى يوجب الاعتزال فيه .
وإذا كان سبب الاعتزال وعدم المباشرة هو أذى المحيض فإن الاعتزال مؤقت بوجوده ، ويزول بانتهائه ; ولذلك بين سبحانه
مدى تحريم الاعتزال بقوله تعالى :
ولا تقربوهن حتى يطهرن والقرب المنهي عنه كناية عن المباشرة ، وهي من الكنايات القرآنية التي تربي الذوق وتمنع عن الأسماع الألفاظ التي يجافي سماعها الأذواق السليمة ; وكم للقرآن الكريم من كنايات ومجازات تعلو بمستوى القارئ ، ولها
[ ص: 732 ] وضوح وقصد إلى المعاني من غير خطأ في الفهم ، ولا غموض في الموضوع ; وأي قارئ يقرأ كلمات :
فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ولا يفهم منها النهي عن الحال التي يتقضاها الطبع في الأحوال الاعتيادية ، وأن النهي موقوت بذلك الوقت المعلوم .
والقراءة المشهورة هي بفتح الراء في
ولا تقربوهن وبضم الهاء
يطهرن من غير تشديد الطاء . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم في رواية
المفضل : ( يطهرن ) بفتح الهاء ، وتشديد الطاء .
ويذكر العلماء في مادة " قرب " أن هذا الفعل من باب كرم ، ومن باب فرح ، فيقال قرب يقرب ، ويقال قرب يقرب ، والأول لازم والثاني متعد ، والمعنى فيهما مختلف ; فالأول يكون بمعنى الدنو ، والثاني كذلك ، ولكنه غلب في العرف أنه مجاز عن اللبس أي الاتصال بالشيء ; ومن ذلك قوله تعالى :
ولا تقربوا مال اليتيم وقوله تعالى :
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا أي لا يدخلوه وكذلك قوله تعالى :
ولا تقربوهن
وقوله تعالى في القراءة المشهورة يطهرن يكون معناها انقطاع الدم ; لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم ، فانقطاعه طهور منه ، فهو وصف وحال قائمة بالمرأة تثبت عند انقطاع الدم لزوال سبب النجاسة . وأما قراءة يطهرن ، فمعناها يغتسلن ; لأن التطهر غير الطهور ، إذ هو فعل من المرأة نفسها منسوب حدوثه إليها ; فهي التي تنشئه لا أنه حال طهر يعود بعد زوال سبب النجاسة المؤقتة .
هذا تفسير بعض العلماء ، وبه أخذ الحنفية . وقال آخرون وعلى رأسهم شيخ المفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري : إن القراءتين في معناهما واحد ، وهو التطهر ، فلا تعد طاهرة إلا بالاغتسال ; وهذا ما سلكه جمهور الفقهاء غير الحنفية .
وقد انبنى على ذلك الخلاف في التفسير خلاف فقهي ; فالحنفية قالوا : إنه بمجرد انقطاع الدم إذا كان الانقطاع لأقصى مدة الحيض وهو عشرة أيام تحل المباشرة ولو قبل الاغتسال أخذا بالقراءة المشهورة وهي قراءة
يطهرن لتأكد زوال الدم ،
[ ص: 733 ] وبه الطهارة ، وإن كان الانقطاع لأقل من عشرة أيام فلا بد من تأكد زوال الدم بعمل آخر من جانبها وهو الاغتسال الفعلي ، وبذلك تنطبق قراءة
حتى يطهرن فالحنفية قد أعملوا القراءتين في نظرهم .
وغيرهم لم يفرق بين القراءتين في المعنى وفسرهما بمعنى الاغتسال فلا تحل قبله مطلقا ; فالطهر حقيقة فيه ، وغيره مجاز ، ولا قرينة تدل على إرادة المعنى المجازي ، فلا يعدل عن الحقيقة ; وفوق ذلك فإن إباحة المباشرة صرح فيها بأن ذلك متصل بالتطهر ، لا بالطهور ; فقد قال سبحانه :
فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله وإذا كان المنع مؤقتا ، فإنه بزواله تجيء الإباحة ، وتعود الحال إلى ما كانت عليه ، وهنا كلمتان ساميتان نشير إلى بعض ما اشتملتا عليه من معان سامية ، وهما قوله تعالى :
فأتوهن والثانية قوله :
من حيث أمركم الله والطلب في قوله تعالى :
فأتوهن ليس المراد به الحتم واللزوم . فليس بلازم الإتيان عقب التطهر ; لأن ذلك مبني على الرغبة والطاقة ، إنما المراد هو إباحة المباشرة فإنه من المقرر عند علماء الأصول أن
الأمر بعد النهي يكون للإباحة ، وخصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام ، مثل قوله تعالى :
وإذا حللتم فاصطادوا ومثل قوله تعالى :
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
وأما الكلمة الثانية وهي
من حيث أمركم الله فمن هنا المسماة بمن الابتدائية ، أي الإتيان يكون مبتدئا من المكان الذي أحله الله سبحانه ، وهو الذي كونه الله سبحانه على أنه المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية ، وهو مكان البذر والإنسال ، فالمراد من أمر الله في هذا المقام الأمر الإلزامي الذي جاء الإلزام فيه بحكم الشرع الإلهي ، وبحكم الفطرة التكوينية ، فقد أمر الله بأن تكون المباشرة في موضع النسل والحرث والبذر ، والفطرة التي فطر الله الناس عليها توجب ذلك وتلزم به ; إلا من إيفت مشاعرهم وشذ تكوينهم ; ولذلك كانت تلك الفطرة هي الوضع
[ ص: 734 ] الإنساني الذي التزمه بنو الإنسان حتى المتوحشون المتبدون ، ولم يخرج عن ذلك إلا الذين أصابهم شذوذ في عقولهم ونفوسهم من بعض الذين سموا متمدينين .
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بتلك الجملة السامية ; والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا هفا ، منيب إليه إذا انحرف ; كثير الرجوع إلى رب العالمين بتوبة نصوح ; والتواب وصف مدح يمدح به العبيد .
وإن للتوبة منزلتين :
المنزلة الأولى : أن يرتكب الشخص منكرا أو معصية بشكل عام ، سواء أكانت صغيرة أم كانت كبيرة ، ويفعل ذلك بجهالة ، ثم يتوب توبة نصوحا ، ويحسن التوبة فيغفر الله له ، فإن
الله سبحانه يغفر الذنوب جميعا لمن أحسن التوبة ;
والتوبة في هذه الحال وصف مدح بلا شك ، وخصوصا إذا استشعر التائب ما كان فيه ، وأحس بالخضوع وأحسن التضرع ، وكان تذكره للماضي حافزا على الاستمساك بحاضره ، والاتجاه إلى ربه ، وطلب المغفرة ; فإن الإحساس بذل المعصية يدنيه من ربه ، ويقربه والمنزلة الثانية من التوبة وهي العالية السامية : أن يحس المؤمن التقي بمقام ربه ، فيحس مع ذلك بالقصور في حقه ، فيراجع ربه بالتوبة الحين بعد الحين ، تداركا لما ظن من تقصيره ، وما ارتكب في تقديره ، فيكون توابا منيبا مستمرا في توبته .
والله سبحانه يحب التائب في كلتا حاليه ، وإن تفاوتت المنازل واختلفت الدرجات .
ومحبة الله تعالى للتائبين رضاه عنهم ، وإسباغ رحمته عليهم ; فالمحبة رضا ورحمة وتقريب . والمتطهرون هم الذين طهروا حسهم ونفوسهم ، وظاهرهم وباطنهم .
وإن تذييل الآية بهذه الجملة السامية يفيد ثلاث فوائد :
[ ص: 735 ] أولاهما : إشعار المؤمن بأن الله غفار للذنوب لمن ارتكب كما قال تعالى :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
ثانيتها : أن
الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن الذي لا يغتر بطاعاته ، حتى لا يزين لنفسه كل أعماله ، فقد يتأدى الأمر بمن يزين لنفسه عمله إلى أن يزين له سوء عمله فيراه حسنا ، وإن الذي يستصغر حسناته فيكثر من التوبة قريب من ربه مستمتع بمحبته سبحانه وتعالى ، وهي أقدس ما في هذا الوجود .
ثالثتها : أن طهارة الحس تؤدي إلى طهارة النفس، فمن كان طهور النفس لا يقبل أن يقدم على أمر مستقذر في ذاته ، تعافه الطبائع السليمة ، والفطرة المستقيمة .