لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم اللغو من الكلام : ما لا يعتد به ، ولا يصدر عن فكر وروية ، وأصله من لغا الطير ، وهو صوت الطيور الذي لا يفهم منه شيء ويظن الإنسان أنه لا يقصد به شيء ، وقد يطلق اللغو على الكلام القبيح الذي ينبغي ألا يعتد به ; ومن ذلك قوله تعالى :
لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا وقوله تعالى :
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقوله تعالى :
وإذا مروا باللغو مروا كراما
وإذا كان اللغو من الكلام ما لا يعتد به ولا يورد مورد الروية والتفكير ، فلغو اليمين ما لا يعتد به ولم يصدر عن روية وتفكير . وقد روي في الآثار صور لأيمان اللغو ، وأخذ بعض الفقهاء صورة منها وحصر اللغو فيها ، وأخذ غيره بصورة أخرى ، وقصر اللغو عليها .
[ ص: 746 ] وأرى أن كل صور أيمان اللغو الواردة عن الصحابة تدخل في معنى
يمين اللغو التي كان من فضل الله على عباده ورحمته بهم أن رفع عنهم إثمها ، ولم يجعلها موضع مؤاخذة ولا اعتداد ، فلا إثم ولا كفارة فيها .
ولنسرد هذه الصور بإسنادها ، وكلها يقع مثله في الحياة اليوم ، كما وقع مثله بين الناس في الماضي :
( أ ) ومن صور يمين اللغو ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن اللغو هو ما يكون بين القوم يتدارءون به في الأمر ، فيقول هذا والله وبلى والله ، وكلا والله يتدارءون في الأمر ، ولا تعقد عليه قلوبهم ; أي أن القوم يتحادثون أو يتذاكرون فتجري على ألسنتهم ألفاظ اليمين لا يقصدون بها يمينا ، فلا يقصدون توثيق قول ، ولا تأكيد خبر ، وقصر الشافعية اللغو على هذا .
( ب ) ومن صور اللغو ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أيضا أن
اللغو هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق ، فيكون على غير ما حلف عليه ; أي أن الشخص يحلف على أمر يعتقد أنه الصدق ، ثم يتبين أنه كان مخطئا في اعتقاده; فهذا لا يؤاخذ عليه رب العالمين ، ولا كفارة فيه . وبهذا فسر الحنفية اللغو .
( جـ ) ومن صور اللغو المروية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يمين الغضب الذي يذهب فيه اللب ، ويفقد التقدير ، فقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) وإن ذلك فيه بعض النظر ، وهو سليم إن قصد به الغضب الذي يفقد فيه الغاضب وزن الأمور .
( د ) ومن صور اللغو ما روي مرسلا عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=hadith&LINKID=936063أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على قوم ينتضلون - يعني يترامون بالسهام - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه ، فقام رجل من القوم فقال : أصبت والله ، وأخطأت والله ، فقال [ ص: 747 ] الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - : " حنث الرجل يا رسول الله ! قال : " كلا ; أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " . وهذه الصورة قريبة من الصورة الأولى أو الثانية .
وإنا نرى كما نوهنا من قبل أن هذه الصور كلها تدخل في معنى اللغو ; لأن معنى اللغو يفهم من مقابله ; وهو ما ليس بلغو ، وغير اللغو هو ما يقصده القلب قصدا صحيحا مبنيا على علم صحيح ، وهو موضع المؤاخذة والله سبحانه عبر عن موضع المؤاخذة بأنه ما اكتسبته القلوب أي قصدته واتجهت إليه بعزيمة وعلى علم صحيح ; وكل الصور السابقة ليس فيها كسب للقلب مبني على إرادة وعلم صحيح ، فلا مؤاخذة ، فتكون لغوا .
ومعنى عدم المؤاخذة أنه لا إثم في الآخرة ولا عقوبة في الحنث ; لأنه لا يمين حتى يكون منع ، وحتى تجب الكفارة ، وقد يقول قائل : إن الحلف بالله ولو لغوا وتكرار ذلك فيه بلا شك ما لا يتفق مع ما للاسم الكريم من إجلال وما يستحق من صون وتحفظ عند النطق ، وهو الأمر الذي اتفق عليه العلماء ، فكيف لا تكون مؤاخذة في لغو الأيمان ؟
ونقول في الإجابة عن ذلك : إنه بلا شك يجب أن يصان اللسان عن النطق بأيمان اللغو ما أمكن ، وإن ثمة إثما إذا كررها وأكثر منها في الجليل والحقير ، والصغير والكبير ، حتى صار اللفظ يجري على لسانه من غير احتياط ، لأن ذلك قد يؤدي إلى الحلف غير لاغ ، بل مع اكتساب القلب ; ولكن ذلك الاسم الذي جاء من الإكثار والتكرار والاستمرار ، ليس هو الإثم المنفي في الحلف الواحد فالإثم الثابت هو ما كان في الكل والاستمرار ، والإثم المنفي ما كان في الجزء والانفراد . على أن نفي المؤاخذة إنما هو ليقدم على الفعل من غير تحرج ، وذلك متحقق في كل أيمان اللغو ، سواء أكانت ممن يكثر أم كانت ممن يقل ، وإن كان ثمة لوم فهو موجه إلى الشخص في جملة أحواله وصفاته ، لا في ذات اليمين منفردة .
[ ص: 748 ] ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم هذا موضع المؤاخذة ، وهو ما كسبته القلوب ، أي قصدته وأرادته . ولم يجئ عفو الخاطر ; أو لم يبن على علم ناقص وما قصدته القلوب نوعان :
أحدهما - أن يقصد إلى فعل أمر أو الامتناع عن أمر مستحصدا عزيمته على ذلك ، موثقا تلك العزيمة بيمين الله سبحانه وتعالى .
وثانيهما - أن يحلف على شيء كاذب مؤكدا قوله لسامعه ليعتقد السامع صدقه ، والحالف جازم بأنه كاذب ; وتسمى هذه اليمين يمين الغموس ، ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور ، والكاذبون في التقاضي .
والمؤاخذة في النوع الأول بوجوب الكفارة إن حنث في يمينه ، وفي النوع الثاني بالإثم المستمر ، حتى يتوب توبة نصوحا ، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على يمينه ضياع حق أو حكم بباطل . ولقد قرر
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه أنه تجب مع ذلك كفارة يمين ، ولم ير الحنفية فيها كفارة ، إنما الكفارة فيما يقبل الحنث ، وتلك لا تقبل الحنث .
وعبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى :
بما كسبت قلوبكم وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد ; وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه ، قد اكتسبه منها ، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو . والأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها ; فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وفي موضوعها ، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا ، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير ، وإصرارا عليه وإيمانا به ، فتشرق بنور الله ، وتستنير بذكر الله . وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم ، فإن القلب يكسب منها شرا ، إذ ينكت فيه الإثم نكتة سوداء ، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته ، وتستغرقه سيئاته ، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام .
[ ص: 749 ] وإن كانت اليمين غير فاجرة ، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير ، يكون الكسب شرا إن أصر عليها ، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان ، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان .
هذا بعض ما يشير إليه التعبير الكريم السامي
بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ذيل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو ، ولبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق ، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها ، وتنكبوا سبيل المؤمنين ، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال ; فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا ، أو ليرتكبوا شرا ، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه ; وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يتمسكوا بها ويفعلوا الخير .
وإن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في
الإعفاء من يمين اللغو ، وعدم اعتبارها ، وفي المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير ، وفي بيان
التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس .
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى ، فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلي القدير في قوله تعالى
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية ; وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله :
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير أو بقوله تعالى :
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص .
[ ص: 750 ] والإيلاء مصدر آلى يؤلي بمعنى حلف ، وخصه
الأصفهاني بالحلف على التقصير في الأمر فقال : (
حقيقة الإيلاء والألية الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه ) .