استراح إخوة يوسف، أو توهموا أنهم استراحوا، وعشى على قلوبهم الحسد البغيض فلم يدركوا ما صنعوا وبقيت لوعة الشيخ أبيهم تترقب ابنه، ولم يذهب عنه الأمل في لقائه، ولم ييأس إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
ولننظر في قصة القرآن عما جرى ليوسف، وقد ألهمه الله تعالى الاطمئنان، جاءت قافلة تسير فأرسلوا واردهم يتعرف أماكن الماء، فوجد الجب، فألقى دلوه، فلم يخرج الماء، ولكن خرج ما هو أطهر فاستبشر، و: قال يا بشرى هذا غلام وأسروه على أنه بضاعة، ولأنها بضاعة جاءت من غير ثمن، باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، ولم يكونوا راغبين في اقتناء هذه البضاعة بل كانوا فيه من الزاهدين.
في وقت هذه المحنة النفسية رأى نور الحق الذي يعصم نفسه، فبقي [ ص: 3786 ] نقيا طاهرا، وصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عباد الله الصالحين، واستبقا بعد ذلك إلى الباب هو يفر هاربا، وهي تمنعه وتجذبه إليها، وفي هذه المسابقة قدت قميصه من ورائه، لأنها تجري وراءه لتشده إليها مانعة له من الخروج.
وإن أخبار القصور تشيع وتنتشر، وقد كانت قصة المراودة بين زوج العزيز ويوسف وزوجها وبعض ذوي قرباها، ولا ندري كم كان عددهم، والخبر إذا خرج عن اثنين شاع، والناس دائما في شوق إلى ما يجري داخل القصور، وينشر دائما ما فيه غرابة.
كان الخبر يشيع، وقد رأى العزيز وملؤه الآيات الدالة على براءة يوسف، وأنه كان فريسة المراودة ولم يكن فاعلها. وقد رأوا حسما للشائعات حبسه ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين أي: حتى تمر مدة تهدأ فيها عواصف الشائعات.
علم الملك الذي أولت له الرؤيا، ولعله نسي المراودة وأمرها كشأن حكام مصر من الأزل، ينسون من يحسن إليهم ولا يذكرونه، وأي إحسان أعظم من أن يكرم شرفه وعرضه.
كانت مصر في ذلك الإبان وما بعده مستراد الخير ، وبتنظيم نبي الله يوسف، وتمكينه من الملك صارت مقصد الشرق، وجاء إخوة يوسف يمتارون، فعرفهم إذ لم يكن التغيير فيهم كبيرا، ولم يعرفوه إذ ألقوه في الجب غلاما، وقد صار رجلا مكتملا، وقد جهزهم، وأعطاهم ما طلبوا، ولكن قال لهم: