وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم بين سبحانه في الآية السابقة ، ما يجب عند الطلاق قبل الدخول إن لم يكن قد سمي مهر وقت العقد ، وفي هذه الآية يبين المطلوب
إذا سمي مهر ، وكان الطلاق قبل الدخول أيضا ، وقد قدم حكم الحال الأولى ; لأن عدم ذكر المهر مظنة ألا تعطى شيئا إذا كان الطلاق قبل الدخول ، فسيقت الآية الكريمة ببيان هذا الوجوب ليزول من الأفهام ما يسبق إليها .
وقد بينا معنى الفرض فيما سبق ، ومعنى الآية الكريمة : إن طلق أحدكم المرأة وقد قدر لها مهرا وقت العقد ، فالواجب عليه هو نصف المهر الذي تراضيا عليه وقت العقد . وقد صرحت الآية بوجوب النصف ، ولم تصرح بوجوب دفعه ، لأنه
[ ص: 832 ] عسى أن يكون قد قدم لها المهر كله أو بعضه ، بل إن ظاهر الحال أنه يكون قد قدم المهر كله ، أو نصفه ، أو أكثر منه ; فكان التعبير بالوجوب ليبين حق المطلق في استرداد ما دفعه أكثر من النصف ، وليشمل وجوب الأداء ومقداره إن لم يكن قد أدى شيئا أو أدى أقل من النصف .
إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح هذا استثناء من الوجوب الذي قدره الله سبحانه وتعالى بالنصف ، وهذا الاستثناء يبين الله سبحانه وتعالى فيه
أن وجوب المهر إنما هو لحق العاقدين ، وأن العفو عنه بابه متسع لمن يريد أن يصل إلى رحابه الفسيح ، والعفو معناه : الإبراء والتنزل عن المطالبة سماحا ; فإن كان الزوج أدى المهر كله فقد فتح له الشارع باب العفو بأن يترك لها حقه مبالغة في مرضاتها ، وقد أرمض نفسها بالطلاق ; وإن كان الزوج لم يقدم لها مهرا ، وحدث الطلاق برغبة منها فإنه يحسن العفو منها وترك المطالبة ، حتى لا تصيبه الخسارة في عقد لم ينل منه مأربا ; وقد يكون مظهر العفو بالعطاء بأن يقدم الرجل كل صداقها إن لم يكن قد أعطاها شيئا منه ، وفي الجملة إن العفو مستحسن من كل منهما في موضعه ، فيستحسن منها إن كانت راغبة في الطلاق غير راضية بالبقاء ، ويحسن منه إن كان الطلاق بغير طلبها .
وقوله
إلا أن يعفون معناه : إلا أن يعفو النساء عن صداقهن ، أو عن حقهن ، فالنون هنا نون النسوة ، ووزن يعفون يفعلن .
ومعنى قوله تعالى :
أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح أي يعفو الزوج الذي بيده عقدة النكاح ; فيستطيع فكها بالطلاق إن شاء ، وإبقاءها إن شاء . وقيل : إن المراد به الولي الذي عقد الزواج ; وذلك لأن الولي على مقتضى مذهب جمهور الفقهاء هو الذي تولى عقد الزواج ، فهو الذي بيده عقدته . وإن الذي نختاره هو أن المراد الزوج لا الولي ; وذلك لأمور ثلاثة :
[ ص: 833 ] أولها : إن العقدة ليس معناها العقد ; لأن العقد هو الربط الذي يتم به الاتفاق بين الرجل والمرأة ويكون به النكاح ، وهو الزواج ; أما العقدة ، فهي الرابطة التي تكون بعد العقد أو الأثر الذي ينتجه العقد . ولا شك أن العقدة بهذا المعنى يملكها الزوج ، ولا يملكها الولي .
ثانيها : إن مقتضى الآية أن
من بيده عقدة النكاح أي الزواج يستطيع أن يعفو عن مقدار من المهر ; ومن المقررات الفقهية أن الولي على النفس ليس له أن يسقط حقا ماليا ، خصوصا إذا كان في وقت الطلاق .
ثالثها : إن العفو من جانب النساء يثبت بقوله :
يعفون والعفو مستحسن من الرجل ، كما هو مستحسن من المرأة ، وكل له موضع ، فإذا ذكر الله سبحانه عفوهن ، فمقتضى السياق أن يذكر عفو الرجل ، ولو فسر قوله :
بيده عقدة النكاح بولي الزوجة لكان معنى هذا أن العفو هو المستحسن من النساء دائما ، مع أن الله يقول مخاطبا الجميع :
وأن تعفوا أقرب للتقوى
والتعبير بقوله تعالى عن الزوج بأنه بيده عقدة النكاح يشير إلى أن الزوج هو الذي يملك فك الزواج بالطلاق ، فكان العفو من جانبه أحق وألزم .
وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع ، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال ; ولذلك صرح سبحانه بأن العفو : أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت ، أقرب لتقوى الله سبحانه ، وأدنى إلى رضاه ، لكي يكون الافتراق بمفرده ، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة ، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات ، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين ، وتكون الإحن ومن ورائها المحن .
ولقد ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال :
ولا تنسوا الفضل بينكم أي لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء ، وإرادة للتفضل والعطاء .
[ ص: 834 ] والفضل في أصل معناه الزيادة في كل شيء ، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة ; ولذا صار يطلق بمعنى العلو ، فيقال : فضل هذا على ذاك كذا .
ومنه الفضيلة ; لما فيها من خير زائد ، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو .
فالله سبحانه وتعالى ، حين ذكر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب ، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال ، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات ; ليكونوا هم الأعلين دائما .
ولقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهون ذلك الاتجاه السامي ; فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، فأعطاها الصداق كاملا ، فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أحق بالعفو منها .
ويروى أن
nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم تزوج ابنة
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص ، ثم طلقها قبل الدخول وبعث لها المهر كاملا ; فقيل له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده ، قيل : فلم بعثت بالصداق ؟ فقال : وأين الفضل ؟ .
ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى أوامره الحاسمة ، وإرشاده الحكيم بقوله عز من قائل :
إن الله بما تعملون بصير للإشارة إلى أنه مطلع على حركات الجوارح ، وخلجات النفوس ، ونيات القلوب ، وما تخفي الصدور ; فليعلموا ذلك ، فإن العلم به يربي فيهم المهابة منه سبحانه وتعالى ; إذ يشعرون برقابته ، فيكفكفون من غضبهم ، وينهنهون من حدتهم وقت الطلاق ، حتى لا يذهب بهم فرط الغضب إلى نسيان المعروف ، وتجاهل الفضل ; فلا يسرحوا لإحسان بعد أن فات الإمساك بمعروف .
وقبل أن ننهي الكلام في معاني هذا النص الكريم لا بد من الإشارة إلى أمرين :
[ ص: 835 ] أولهما : لماذا كان المهر في الزواج من جانب الزوج ؟
والثاني : ولماذا وجب النصف أو ما في معناه ، وهو المتعة إن حصل الطلاق قبل الدخول ؟
والجواب عن السؤال الأول : أن المهر شرع في الزواج على أنه ثمرة من ثمرات العقد ، وأثر من آثاره ، وليس ركنا من أركانه ، وليس شرطا من شروطه ، فليس هو كالثمن في البيع كما فهم بعض الذين لا يفقهون المعاني الشرعية على وجهها ، وشرعيته على أنه هدية واجبة من الرجل لزوجته ، لأن المرأة إذ تنتقل من بيت أبيها إلى بيت زوجها ، تستقبل حياة جديدة ، وهي تحتاج في سبيلها إلى ثياب ، وزينة وعطر وغيرها بالقدر الذي يليق بحالها ، فكان من اللازم أن يقوم لها الزوج ببعض ما يعينها على ذلك ، ولذا أوجب الله لها المهر ، وأوجب العرف أن يقدم بعضه على الزفاف إليه .
وقد جرى عرف الناس على أن المرأة هي التي تعد أثاث البيت ، وما يحتاج إليه من فراش ، فكان من الواجب أن يعينها الزوج على ذلك ببعض المال يقدمه ، فكان هو المهر ، أو بعبارة أدق معجله .
وإن تقديم المهر من جانب الرجل هو النظام الفطري ، لأن الرجل هو الكادح العامل الكاسب للمال . وقد خالفت
أوربا ذلك النظام الفطري ، فجعلت المرأة تقدم مالا ، هي ، فكانت الفتاة تسعى إليه ، فتتعثر فطرتها ، وتنحرف عن الفضيلة ، وتقع في حمأة الرذيلة قبل أن تصل إلى المال الذي تعده لخطيبها ، فكان ذلك جزاء كل جماعة خالفت فطرة الله التي فطر الناس عليها .
هذا هو الجواب عن السؤال الأول ، أما الجواب عن السؤال الثاني ، وهو يتعلق بالسبب في
وجوب النصف بدل الجميع عند الطلاق قبل الدخول ، فنقول : إن إعطاء نصف المهر أو المتعة من قبيل التسريح بإحسان كما أشرنا من قبل ، وقد قال تعالى
وسرحوهن سراحا جميلا وإن التفرقة قبل الدخول تجرح
[ ص: 836 ] إحساس المرأة إن لم تكن بطلبها ، فأوجب سبحانه نصف المهر ، ثم حث الرجل على إعطائها النصف الثاني فضلا وسماحا .
وذلك شرع الله ، وهديه الحكيم ، وإرشاده السامي ; والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق .
* * *