ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 243
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
* * *
في الآيات السابقة قد بين سبحانه وتعالى أحكام الأسرة ، والدعامة التي يقوم عليها بنيانها ، والنظم التي تربط آحادها ، وحقوق كل واحد فيها على سائرها ; فبين حق الزوج ، وحق الولد ، وما ينبغي لتستمر المودة الرابطة حال بقاء الزوجية وعند انتهائها ليكون حبل الوداد موصولا دائما .
والأسرة هي بناء المجتمع الإنساني ، واللبنات التي يشاد منها صرح مجتمع فاضل ; فالمجتمع القوي الفاضل لا يقوم إلا على دعائم من أسر قوية فاضلة ، ففي الأسرة يتعلم الطفل مبادئ المجتمع المشترك المتحد المؤتلف ، وفي الأسرة يسمو نزوعه المدني إلى الاجتماع والائتلاف ، ويتجه اتجاها مستقيما نحو أسمى الغايات الاجتماعية ، وهو أن يكون امرأ يألف ويؤلف ; وإن الأساس الحقيقي للاجتماع أن يكون آحاده ممن يألفون ويؤلفون ; ولذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=702618قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن مألفة ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " .
[ ص: 857 ] وإن القادة والزعماء الذين يعدون أممهم للكفاح يبتدئون بالأسرة ، فيحمونها ويقيمون دعائمها على أسس الخير وحب الاجتماع ، والاستعداد للفداء في سبيله والنظم الاجتماعية التي جرب فيها محو الأسرة لتتربى الأمة على الكفاح - كنظام
ليكورغ في
أسبرطة - أدى إلى وجود شباب قد يكون قويا في جسمه ، ولكن لا يمكن أن يكون قويا في خلقه وإيمانه بالفضيلة ، والمثل العليا للمجتمع الفاضل الذي يحمي نفسه من ذرائع الانحلال في داخله ، ويدرع بعدة القتال لحماية الحوزة ودفع الذل .
من أجل هذا كانت أحكام الأسرة بين أحكام الجهاد في القرآن ; فقد سبق أحكام الأسرة كلام من الله تعالى في القتال وأعقبها دعوة وتحريض على الجهاد ، وحث عليه بضرب الأمثال من الأمم السابقة ، وكيف جاهدت في سبيل الحق ، وانتصرت القلة مع إيمانها على الكثرة مع كفرها ; وقد ابتدأ سبحانه وتعالى هذا بقوله تعالت كلماته :
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم الاستفهام هنا يؤدي في مغزاه معنى التقرير والتثبت ; وذلك لأنه للإنكار والنفي ، وقد دخل على منفي فنفى النفي ، وبذلك تقرر المعنى وثبت ; لأن نفي النفي إثبات ; فالمعنى قد رأيت ونظرت وعلمت ، والخطاب عام لكل قارئ وسامع إلى يوم القيامة ، والرؤية بمعنى العلم ; فإن رأى تكون بمعنى علم وبمعنى أبصر ، أو تكون دائما بمعنى أبصر ، ولكن الإبصار قد يكون بالبصر ، وقد يكون بالبصيرة فيكون علما ; وقد تتضمن الرؤية معنى النظر وهو نظر بالبصيرة ; ولأنها تضمنت معنى النظر قد تعدت بإلى ، فقال تعالى :
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقد ذكر
الراغب الأصفهاني في مفرداته : أن رأى إذا تضمنت معنى النظر ، ولو كان النظر بالبصيرة ، تتعدى بإلى .
والمعنى الإجمالي : لقد علمت أيها القارئ المتتبع لسنن الله في الناس واجتماعهم الناطقة به آياته في نفوسهم وفي الآفاق ، علم اليقين والجزم الناشئ عن
[ ص: 858 ] دليل منير - حال أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، ومن لم يعلم ذلك ينبغي أن يعلم ; لأن البينات قائمة ; والعلامة المعلمة واضحة فالاستفهام في الآية يقرر العلم ، ويوجه الأنظار إلى وجوبه ، ويحثها على الأخذ في أسبابه والالتفات إلى أماراته وأعلامه ; فهو تقرير وتنبيه ، وإثارة للمعجب من حال من فروا من الجهاد فلقوا الموت .
ومن هم أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؟ قبل أن نخوض في الجواب عن ذلك نتكلم في أمرين لفظيين قد يهدي أحدهما إلى الحق في شأن أولئك الذين خرجوا من ديارهم .
الأمر الأول - كلمة " ألوف " فإن بعض العلماء فسرها بمعنى كثرة العدد ، أي أنهم عدد كثير ، ألوف مؤلفة ، وكثرة كاثرة ; فما كان خوفهم عن قلة ، بل كان عن كثرة ; أو ما كان الخوف عن سبب يسوغه ، بل كان عن جبن يخذل .
وبعض العلماء قال : إن معنى " ألوف " مؤتلفون مجتمعون ; فألوف على هذا جمع آلف ، كقعود جمع قاعد ، وركوب جمع راكب ، ونحو ذلك ; والمعنى على ذلك أنهم قبل خروجهم من ديارهم ، وتفرقهم في الأرض كانوا مؤتلفين مجتمعين توحدهم كلمة جامعة ، ووحدة رابطة ، ففرقهم الخوف على الحياة أيا كانت صورها ولو كانت حياة الذل والانكسار ، وإنه ليعقبها الشقوة والانهيار .
الأمر الثاني - كلمة " حذر الموت " تنبئ عن الباعث على فرارهم ، وهو حرصهم المطلق على الحياة على أي صورة كانت تلك الحياة ، كما وصف سبحانه وتعالى اليهود فقال سبحانه :
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة أي مهما يكن نوع هذه الحياة ، ثم خوفهم المطلق من الموت ، أيا كانت أسبابه ، ومهما تكن نهاية الفرار منه ، وإن ذلك الخوف كان قبل أن تتحقق أسبابه فلم يكن الموت قد نزل ضربة لازب لا مناص منه إلا بالخروج من الديار ; بل إن الذي دفعهم هو الحذر من الموت ، وليس الحذر إلا توقيا للأسباب واحتراسا وابتعادا قبل أن تظهر الأسباب قوية ملزمة موجبة ، وعلى ذلك يكون الحذر من الموت أدق
[ ص: 859 ] في بيان جبنهم من الخوف ، إذ الخوف يكون وقد ظهرت موجباته ، وتعددت الأمارات ; أما الحذر فإنه توق مانع قبل وجود الأسباب وإن بدت ولاحت بعض أمور احتمالية لوجود هذه الأسباب .
ولقد كانت نتيجة خروج أولئك الحذرين من الموت أن استقبلهم الموت المقدور ، فقال لهم الله موتوا ; وأمر الله سبحانه وتعالى هنا أمر تكويني ; أي أنه سبحانه وتعالى أماتهم ، وإن أمر الله التكويني هو بإيجاد ما ساقه على أنه أمره
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
فإذا كان أولئك قد فروا من الموت فليلقاهم الموت ، وكيف يفرون من أمر وهو واقع لا محالة طال الأمد أو قصر ، وهو واحد مهما تعددت أسبابه ، والموت في شرف خير من الحياة في خسة ، والموت في عزة خير من الحياة في ذلة ! .
بعد هذا نجيب عن السؤال : من هم هؤلاء الذين فروا من الموت فلقيهم من حيث لا يقدرون ، ثم أحياهم من ذلك رب العالمين ; وهل هذه الحياة كانت في الدنيا ؟
قد وردت في ذلك أخبار وروايات لم تثبت بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بين الكتاب للناس ، ولا عن أحد من أصحابه الذين تلقوا ذلك البيان .
ومن تلك الروايات أنهم قوم من بني إسرائيل خرجوا هاربين من الوباء فنزلوا واديا ، فأماتهم الله ثم أحياهم اعتبارا وإجابة لدعاء نبي من أنبيائهم .
وفي رواية أخرى أنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد مع نبيهم ، فأماتهم الله ليعلمهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم ليجاهدوا .
ورواية ثالثة تقول : إن أولئك القوم كانوا من بني إسرائيل ، حرضهم ملك من ملوكهم على الجهاد فخرجوا حذر الموت ، فأماتهم الله سبحانه ثم أحياهم .
وفي كل رواية من تلك الروايات تفصيلات لا حاجة إلى ذكرها ، ولقد نقل
القرطبي في أحكام القرآن بعد ذكر هذه الروايات ما نصه : قال
ابن عطية : وهذا
[ ص: 860 ] القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه
محمدا - صلى الله عليه وسلم - إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا اغترار مغتر ; وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي
أمر المؤمنين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، وهو ظاهر وصف الآية .
هذه كلمة نقلها
القرطبي ، وقد اختار من قبله شيخ مفسري الأثر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ذلك ، وقد ارتضى ألا يتعرض لأولئك الأقوام من هم ؟ إذ لو كان في ذكرهم فائدة لذكرهم القرآن ، أو لذكرتهم السنة النبوية .
وإن المفسرين السابقين قد نهجوا على أساس أن الموت حقيقي حسي ، وأن أولئك قد ماتوا حسا وأحياهم الله سبحانه وتعالى حسا ، وإن ذلك بلا ريب يكون فيه مع إعلامهم بأن الموت لا مناص منه ، بيان لقدرة الله الخارقة للعادات ، المتحكمة في السنن الكونية ، فلا تخضع لهذا السنن ، لأن الله منشئها .
ولقد جاء من بعد أولئك المفسرين السابقين الأستاذ
الشيخ محمد عبده ، فرأى أن الموت معنوي ، والحياة حسية ، فرأى رضي الله عنه أن الموت هو موت الأمم ، والحياة هي حياتها ، وموت الأمم بتفرق كلمتها وذهاب وحدتها ، وضرب الذلة عليها ; وأن حياتها هي اجتماع كلمتها ، ونيل عزتها ، وتولي أمرها بنفسها ، وخروجها من ديارها أن يتحكم فيها عدوها ، فإنها تكون غريبة في أرضها ما دام لا أمر لها فيها ، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، ولنترك الكلمة له كما رواها تلميذه
السيد رشيد رضا رحمه الله تعالى ، فقد قال :
" أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم ، ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين ، فلنأخذ القرآن على ما هو عليه ، لا ندخل فيه شيئا من الروايات
[ ص: 861 ] الإسرائيلية التي ذكروها ، وهي صارفة عن العبرة ، ولا مزيد كمال فيها . المتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم ، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين ، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء ، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت ، وما هو إلا سبب الموت . . ولما خرجوا فارين
فقال لهم الله موتوا أي أماتهم بإمكان العدو منهم ; فالأمر أمر التكوين ، لا أمر التشريع ; أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أوتوه من سبب الموت ; وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار ، ففتك بهم وقتل أكثرهم ; ولم يصرح سبحانه بأنهم ماتوا ، لأن أمر التكوين مشيئة الله سبحانه . .
ثم أحياهم إنما يكون الإحياء بعد الموت ; والكلام في القوم لا في أفراد . . . فمعنى موت أولئك القوم أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم ، وأزال استقلال أمتهم ، حتى صارت لا تعد أمة ، بأن تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكان من بقي خاضعين للغالبين ، ضائعين فيهم مدغمين في غمارهم لا وجود لهم في أنفسهم ، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم ; ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم ; ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبا لهم ، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة . أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، حتى عادت لهم وحدتهم قوية ، فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال . فهذا معنى حياة الأمم وموتها " .
وهذا نظر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، ونراه نظر إلى مرمى الآية الكريمة ، وهو يتجه إلى أن الموت والحياة هو موت الأمم وحياتها ; وموت الأمة ليس بموت آحادها ، إنما هو بذهاب الجامعة التي تربطها ، واندغامها في غيرها ، حتى لا يصبح لها كيان قائم بذاته ; وحياتها هي عودة هذه الوحدة الجامعة ، والعزة المسيطرة والكيان المستقل .
[ ص: 862 ] وبعد هذا العرض الذي سقناه بيانا لآراء العلماء أجد في نفسي ميلا لأن أعتبر الحياة التي منحهم الله سبحانه وتعالى ليست تلك الحياة المادية في الدنيا بإعادة الروح إلى العظام واللحم ; وإن كان ذلك في قدرة الله سبحانه وتعالى ; ولو كانت الآية في مقام إثبات البعث والنشور لقررنا ذلك وقلنا إن الآية لا تحتمل سواه ، ولكن المقام هنا هو مقام الحث على القتال والتحريض عليه وسوق القصص الدالة على وجوبه ، ليكون حفاظا للأمم ، وسياجا لوجودها ، فيكون الإحياء بمعنى غير إعادة الروح إلى الجسد في هذه الدنيا ، وعلى ذلك لا مناص لي من أن أختار أحد أمرين :
أولهما : أن نقول إن الحياة هي حياة الأمم برد عزتها بعد أن فقدتها ، والموت هو موت الأمم بذهاب جامعتها على النحو الذي بينه الأستاذ الإمام ; فالحياة والموت هنا معنويان ، والقرآن الكريم قد أطلق الحياة والموت على الأمور المعنوية ،
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وقال تعالى :
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
وإنا إذا اخترنا ذلك المنهاج الذي نهجه الأستاذ
الشيخ محمد عبده ، فإننا نقرر أن الله سبحانه قد ذكر لنا في آية أخرى في بني إسرائيل أنهم تفرقوا في الصحراء تائهين عندما عجزوا عن دخول الأرض المقدسة مع موسى فذهبت وحدتهم ، حتى إذا رد إليهم بأسهم وقويت نفوسهم بالحياة البدوية جمعهم الله فأحياهم وجعلهم جماعة تقاتل في ظل النبيين . وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة المائدة فقد قال تعالى في مجاوبة بني إسرائيل لموسى عندما دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة :
قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين [ ص: 863 ] فهؤلاء الذين تاهوا في الأرض قد ماتت وحدتهم ، وقد أحياهم الله سبحانه من بعد بجمع كلمتهم في عهد الملوك والنبيين . وإنه ليزكي ذلك النظر أن الآيات من بعد ذلك في قتال بني إسرائيل مع ملوكهم وأنبيائهم ، وانتصارهم وهم فئة قليلة مع داود عليه السلام على أعدائهم وقد كانوا كثيرين .
الأمر الثاني : الذي تحتمله الآية الكريمة في معنى الحياة والممات : أن يكون المراد الموت الحقيقي بموت أكثرهم ، وتشتت باقيهم ; وذلك لأن حذر الموت جعل عدوهم يعمل سيفه في رقابهم حتى أباد خضراءهم ، واجتث شأفتهم ، والحياة من بعد ذلك هي الحياة الآخرة ، وما يجري بعدها من حساب وعقاب ، فهم قد أذاقهم الله سبحانه وتعالى بها مغبة الجبن في الدنيا ، وسيحاسبهم على ما كان منهم في الآخرة ، فهم بهذا قد خسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين . وقد يقول قائل : إن التعبير بالماضي والحياة في الآخرة أمر مستقبل غيب الله سبحانه زمانه ، وأكد وجوده ، فنقول : إن التعبير بالماضي للدلالة على تأكيد أن الوقوع في المستقبل منهاج قرآني كما في قوله تعالى :
أتى أمر الله فلا تستعجلوه فـ ( أتى ) هنا بمعنى سيأتي ، بقرينة " فلا تستعجلوه " ومثل قوله تعالى في أهوال يوم القيامة :
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
هذان هما الأمران ، ولعل أولهما أبين وأوضح ، ونحن إليه أميل . وقد يقول قائل : لماذا تستبعد الإحياء الجسمي في الدنيا ؟ أهو مستحيل ؟ وجوابنا عن ذلك : إنه ليس بمستحيل ، ولكنه خارق للعادة ، والله سبحانه وتعالى يسير أمور الناس على مقتضى ما سنه في الكون حتى تقتضي حكمته خرق ذلك النظام ليكون حجة على رسالة رسول ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، كما أنه لم يسق الآية لبيان البعث حتى يكون خرق سنن الله التي سنها في الكون لبيان قرب البعث وقدرة الله عليه ; إنما الأمر في الجهاد ، ويناسب ذلك أحد المعنيين اللذين ذكرناهما ، والأول في هذا المقام أنسب ، وهو على النحو الذي وضحناه يكون تمهيدا لبيان قصص بني إسرائيل في قتالهم .
[ ص: 864 ] إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون بعد بيان حال الذين فروا من الجهاد ، وآثروا الدعة والراحة فلم يأخذوا الأهبة للقاء عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر ، وينتهز أية فرصة لينقض عليهم ; بعد بيان حال هؤلاء وأنهم يفرون من الموت في شرف إلى الموت في خسة ، ومن الموت العزيز الكريم ، إلى الموت الذليل الذي يدفع إليه الطبع اللئيم ; بعد هذا كله أشار سبحانه إلى فضله تعالى على الناس أجمعين ; وإن الإشارة إلى فضل الله تعالى في هذا المقام تنبيه للعقول الغافلة ، وإيقاظ للأفكار الراقدة إلى عظيم نعمته تعالى على الناس في أنفسهم وفي اجتماعهم ; وذلك لأنه سبحانه وتعالى أنشأ النفوس الإنسانية ، وأودعها الإلف والائتلاف ، وبذلك يتكون الاجتماع ، ويعاون كل امرئ الآخرين ، وبفضل التعاون تقوم الأمة ، ويشتد ساعدها ، ولقد أودع الله سبحانه وتعالى مع تلك النعمة المؤلفة الرابطة قوة أخرى في الإنسان ، وهي القدرة على الدفاع عن النفس ، ومغالبة الذين يصاولونه ، ويريدون به الأذى ، من أعداء مغيرين ، أو حيوان مفترس ; فبهذه القوة الخلقية التي أودعت نفسه ، وبتلك القوة الجسمية المكافحة يصاول أعداءه ، ويحمي أولياءه ، ومن مزيد فضله على الناس أن أباح الدفاع عن النفس ، والقتل في سبيل ذلك ، كما قال تعالى :
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير
ومن فضل الله على الناس أن مكن للمظلوم من ظالمه ، وللمعتدى عليه من المعتدي إذا أخذ المظلوم في أسباب دفع الظلم واستعد ، ولم يمكن الظالم من رقبته ; فإن مات في سبيل ذلك مات شهيدا ، وجعل الله سبحانه وتعالى له في الآخرة نعيما مقيما ، وثوابا دائما ، واعتبره أفضل الأحياء ; كما قال تعالى :
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون واعتبر سبحانه وتعالى الجهاد في الدفاع عن الحوزة والديار ما دام عادلا ، جهادا في سبيله سبحانه وتعالى .
[ ص: 865 ] كل هذا من فضل الله على الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون لا يشكرون هذه النعم ويقومون بحقها عليهم ، فإن شكر النعم أن يحس المنعم عليه بفضل المنعم ، ويحمده ويثني عليه ، ويقوم بحق الإنعام بأن يجعل ما أنعم الله به عليه لخيره وخير الناس ، ويستعمله فيما أحله سبحانه .
وأكثر الناس قد كفروا هذه النعم ; فمنهم من أشرك مع المنعم سبحانه غيره من أحجار وأوثان وشمس وبقر ونار ، فطمس الله على بصيرتهم ; ومنهم من كفر بما أودع الله نفسه من قوة ، فاستخذى واستكان ، ورضي بالمكان الدون ، والمنزل الهون ; ومنهم من تقاعس في الدفاع عن حوزته ودياره وهو على ذلك قادر حتى أبيح الحمى وهدمت الديار ; ومنهم من فر من لقاء الأعداء ، حتى آل إلى الموت الخسيس ، وقد جهل نعمة الله على الناس ، وسننه فيهم وهي أنه لا ينجي من الموت إلا الإقدام على الموت مدرعا بكل وسائل القتال والدفاع ; وأن من يطلب الموت ينال الحياة ، ومن يفر من الموت الشريف يطلبه الموت الذليل تلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .
هذا موضع قوله تعالى :
إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون في مقام بيان عاقبة الذين يتركون الجهاد ويفرون حذر الموت ، وهو يدل على أن أولئك الفارين لم يقوموا بحق المنعم الذي أنعم عليهم ; إذ لم يطيعوه بأخذ الأهبة والاستعداد ، ولم يعتمدوا عليه سبحانه بعد أن يأخذوا بالأسباب ، وكفروا بأنعم الله عليهم ولم يقوموا بحقها فعطلوا قواهم ورضوا بالفرار والعار ، وعندهم القدرة على الدفاع مستعينين بالله سبحانه .
وقد قال تعالى في وصف ذاته الكريمة
إن الله لذو فضل على الناس أي لصاحب فضل دائما ، أي أن الفضل على الناس بلازم ذاته الكريمة ، فهو المتفضل سبحانه وتعالى دائما ; تفضل بالإيجاد ، وتفضل بإيداع القوى ، وتفضل بسن السنن الكونية والشرائع الهادية ، والإرشاد القويم ; وتفضل بأن أقام الأمور على الحق والقسط ، وأن الخير يدفع الشر ، وأهل الحق يدفعون الباطل وأنصاره ، وأن
[ ص: 866 ] المعتدى عليه يدفع اعتداء المعتدي وفي كل ذلك صلاح الأرض
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين