تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر ، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله ، وهي تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنها تتلى على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهي معجزته وآية رسالته ، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم ; لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ، لم يجلس إلى معلم ، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرؤه ; لأنه ليس بقارئ ، ولا بطريق معلم يعلمه ، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب ، ولا علماء يتدارسون ، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال ، ولم يكن
محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته ذا نجعة وأسفار ، بل لم ينتقل من
مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام ، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين .
[ ص: 915 ] فإذا كانت حال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته ، فهو دليل على أنه من عند الله .
والإشارة في قوله تعالى :
تلك آيات الله إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى :
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد ، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها ، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها . وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله ، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده ، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به ، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر .
وقوله تعالى :
نتلوها عليك بالحق يفيد أمرين :
أولهما : أن القرآن كان يتلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتلقاه بالروح الأمين . وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو
جبريل - للإشارة إلى أن تلاوة
جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين .
الأمر الثاني :
أن ما في القرآن حق دائما ، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان ، لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل .
والتلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له . وقد قال
الراغب في مفرداته إن مادة " تلا " أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها ، وذلك يكون تارة بالجسم ، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو ، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى ، ومصدره تلاوة . . ثم قال :
[ ص: 916 ] " والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة ، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وهي أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة " .
فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني .
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى :
وإنك لمن المرسلين
وإن ذلك كالنتيجة ; لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق ، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة مؤكدات :
أولها : " إن " ، فإنها في أصل معناها للتأكيد ، وهو يصحبها في دلالتها دائما .
وثانيها : " اللام " في قوله تعالى ( لمن ) .
وثالثها : " الجملة الاسمية " ، وإدخاله - صلى الله عليه وسلم - في عداد المرسلين .
وإن قوله تعالى :
وإنك لمن المرسلين يدل على أمر آخر ، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد وهو من البشر بدعا ، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول ، أو جحود .
وإن
القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض .
* * *