يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة بعد أن بين سبحانه أن الاقتتال قائم في الدنيا ، وأن الحق لا ينال في راحة واطمئنان ; لأن البغي والعدوان في طبيعة كثير من بني الإنسان ; وإذا كان الحق في ذاته أنبل ما يطلبه ابن الإنسان فإن الطريق إليه ليس خاليا من مذأبة من ابن الإنسان ; وإذا كان ابن
آدم قد قتل أخاه ; لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ، ولم يتقبل من الآخر ، فقال من رد عليه قربانه لأخيه : لأقتلنك ، وقتله ; فالنزاع مستمر ; لذلك
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير فكان لا بد من أخذ الأهبة ، وبذل النفس ، ثم بذل النفيس أيضا .
ولذلك
أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يستعدوا للقتال بالإنفاق في سبيل الله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم أي أنفقوا في سبيل الله . فالإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق في سبيل الحق ، وسبيل كل خير في هذا الوجود ، فكل ما ينفق في سبيل الفضيلة من إعطاء لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وإقامة دعائم الاقتصاد الفاضل ، والعمران الشامل هو مما ينفق في سبيل الله ، وأقواها مما ينفق في سبيل حماية الحوزة ، والدفاع عند الاعتداء .
[ ص: 927 ] وإن إنفاق المال في سبيل الله على المعنى الذي وضحناه هو عنصر القوة في الأمة ، وبالقوة تستطيع الأمة أن تدافع عن نفسها ، وترد كيد أعدائها في نحورهم .
وكان الإنفاق على ذلك النحو عنصر القوة في الأمة لثلاثة أسباب :
أولها : أن المال عدة التسليح ، ولا قتال من غير سلاح يفل شوكة العدو ويدفع كيده ، بل يمنعه من أن يفكر في الاعتداء ، فإنه لا شيء أنفى للقتال من السلاح ; فذو الناب لا يعدو على ذي الناب ، وتعدو الذئاب على من لا كلاب له .
وثانيها : أن الإنفاق في سبيل إقامة العمران رفع لمستوى الأمة الاقتصادي ، والاقتصاد سلاح ماض ، والحرب اليوم تلبس لبوس الاقتصاد في الحصار الاقتصادي والتضييق التجاري .
وثالثها : أن
الإنفاق على ضعفاء الأمة يجعل منهم سواعد قوية تحمي الذمار ، وإن تركهم يجعل منهم شوكة في جنب الدولة يعوقها عن العمل ، وقد يكونون قوة مدمرة مخربة ، وإن الهرة إذا جوعتها انقلبت ذئبا .
وقد قال سبحانه وتعالى في المال المنفق منه
مما رزقناكم إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أفاض بنعمته على الغني فهيأ له الأسباب ، ومكنه من الفرص ، ومنع عنه العوائق ، فإن أنفق في سبيل الله فأعطى المجاهدين ، والضعفاء ، فمن المال الذي مكنه الله منه أنفق ; ولقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=663994قال - صلى الله عليه وسلم - : " ابغوني في ضعفائكم ، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم " .
والإنفاق المطلوب في هذه الآية واجب ، بدليل الوعيد الذي تضمنه الطلب " ولذا قال كثير من المفسرين إن الإنفاق المطلوب في هذه الآية هو الزكاة ،
والزكاة ينفق منها في الجهاد وللفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين ، ففيها كل المعاني التي تتحقق بها قوة الأمة من حماية للحوزة وسد للخلة ، وإقامة للعمران .
وإنا نوافقهم على أن الإنفاق المطلوب في هذه الآية إنفاق واجب ; ولكنه أعم من الزكاة ، فليس الإنفاق الواجب مقصورا على الزكاة . . بل الإنفاق في الحرب
[ ص: 928 ] عندما تشتد الشديدة ، ولا يكون في بيت المال ما يكفي - يكون واجبا .
والإنفاق على الفقراء إذا لم تكف الزكاة يكون واجبا ; فالقصر على الزكاة ليس بصحيح .
وقد ذكر الله سبحانه وعيدا شديدا لمن لا ينفق في سبيل الله فقال سبحانه :
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والخلة المودة والمحبة ، وأصلها من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين ، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه : " الخلة المودة ، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها ، وإما لأنها تخل بين النفس فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية ، وإما لفرط الحاجة إليها ; يقال منه خاللته مخاللة وخلالا فهو خليل " . والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم ، فالشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه ، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو دونه ، ومنه الشفاعة يوم القيامة .
وقد صرح سبحانه وتعالى بأن الإنفاق يجب أن يتداركه المنفقون قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجدي فيه بيع ولا مودة ولا شفاعة . ولا شك أن هذا اليوم هو يوم القيامة ، ولكن ما المراد من نفي البيع والصداقة والشفاعة فيه ؟ .
هناك منهاجان في معنى هذا النفي :
أحدهما : أن معنى هذا النفي أنه يوم لا بيع فيه أي لا تجارة حتى يدفع الحرص عليها إلى عدم الإنفاق ، ولا صداقة حتى يؤثر الإنفاق عليها أو طلب المادة عن طريقها في عدم الإنفاق ، أو شفاعة أي طلب المال بطريق شفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء ، والمعنى على هذا : أنفقوا قبل أن يجيء اليوم الذي لا تجدون فيه جدوى للمال بتجارة ، أو بصداقة تتبادل فيها المنافع المعنوية والمادية ، أو بشفاعة شفعاء يطلب المال عن طريقهم . والمغزى في هذا أنه إذا غرتكم فوائد المال في هذه الأبواب الدنيوية ، فأنفقوا لتتقوا بهذا الإنفاق اليوم الذي لا تروج فيه هذه الأسباب ، بل يحكم فيه الحكم العدل مالك الملك .
والمنهاج الثاني : أن يكون المراد نفي هذه الأمور في الآخرة ; فالمعنى : أنفقوا قبل أن يأتي اليوم الذي لا تستطيعون فيه أن تفتدوا نفوسكم بعدل تقدمونه فيكون
[ ص: 929 ] كالبيع ، ولا تجدون صديقا يدفع عنكم ، ولا شفيعا يشفع لكم فيحط من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين . والمغزى على هذا يكون الوعيد فيه أشد وأوضح ; لأن المعنى نجوا أنفسكم بالإنفاق قبل أن يكون زمان لا منجاة فيه .
والكافرون هم الظالمون ذيلت هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أن المؤمنين عدول إذا قاتلوا الكافرين ; لأنهم هم الذين اعتدوا ، وإلى أن الذي يقع بهم من عقاب يوم القيامة يستحقونه ، وإلى أنهم هم الذين حركوا ذلك الشر ، وأنهم هم الذين أشعلوا نيران الحروب بالشر الذي كان في نفوسهم .
ثم إن الكافرين ليس ظلمهم فقط لغيرهم ، بل ظلمهم لأنفسهم ، لأنهم طمسوا قلوبهم ، وجعلوا أنفسهم في شدة وبلاء ، ثم هم ظالمون فيما بينهم ; كبراؤهم يظلمون ضعافهم ، وضعفاؤهم يظلمون أنفسهم ، بالاستضعاف والحياة الهون بينهم ، وظلموا أنفسهم بأن حرموها من سعادة الإيمان وبرد اليقين ونور الحق ، ورضوان الله ونعمة الله
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله
لكل هذه المعاني كانوا ظالمين ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ظلمهم بالقصر ، أي قصر الظلم عليهم ; لأنه لا ظالم غيرهم ; وبالجملة الاسمية والضمير المنفصل .
هدانا الله إلى سبيل الحق والعدل والنور ، إنه سميع مجيب الدعاء .
* * *