الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء في هذه الجملة يبين سبحانه وتعالى بواعث الشر الكامنة في نفس الإنسان ، فالشيطان يجري في عروقه مجرى الدم ، وهو يوسوس للإنسان بالشر ، فإذا تقدم لينفق في سبيل الله ، وإعلاء شأن الحق ، أو سد حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، وسوس إليه بأن ذلك سبيل نفاد المال ، وأنه إذا ذهب ماله ، ضاع وهانت حاله ، ويوسوس له بذلك ، فيحجم بعد إقدام ، وإن أقدم فليعط قليلا من المال ، أو ليتخير الحشف من ماله . هذه وسوسة الشيطان ، وهذا مغزى قوله تعالى :
الشيطان يعدكم الفقر أي يوعدكم إذا أنفقتم بالفقر ، ويحذركم من الصدقة بما يوسوس بذلك في أنفسكم ;
[ ص: 1006 ] وفي هذا الكلام عبر سبحانه عن التهديد بوعد ، وهو المشهور في لغة القرآن ، وقد تستعمل أوعد في الشر والخير معا ، وإن كل بخيل تحدثه نفسه بخوف الفقر عند الإنفاق ، وهذا الحديث هو حديث الشيطان ; ولذا قيل : الناس من خوف الفقر في فقر .
ويأمركم بالفحشاء أي يغري نفس المؤمن بالفحشاء ، ويستمر في إغرائها حتى تطيعه وتخضع خضوع المأمور للآمر . والفحشاء قال بعض العلماء : إن المراد بها المعاصي التي تردي النفس الإنسانية ، من مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر ; واقترانها بالوعد من الشيطان بالفقر ، ليدفع الإنسان تلك الوسوسة عن نفسه " وبذلك يشير المولى الحكيم إلى أن وسوسة الشيطان للإنسان بتخويفه بالفقر هي من قبيل وسوسته بالفحشاء والمعاصي المنكرة القبيحة ، وإن
الممتنع عن الإنفاق في موطنه كمن يرتكب أفحش الفواحش ، وينتهك الحرمات ، لأن امتناعه عن العطاء وقت لزومه يؤدي إلى انتهاك الحرمات ، وارتكاب المعاصي ; إذ ينقلب الفقير هادما مخربا ، فترتكب أبلغ المحرمات إيغالا في الشر ، وقد يكون في ترك الإنفاق تعريض البلاد للخراب والدمار ، وفي ذلك نشر للفساد ، وتعريض البلاد لأن تنتهك فيها الحرمات ، وترتكب فيها أشنع الموبقات ، وهل بعد الذلة خير يرتجى وشر يدفع ؟
هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه ، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم ، وقد فسر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هنا الفحشاء بالبخل الشديد ; فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة
العرب على البخيل الشديد البخل ، ومن ذلك قول
طرفة بن العبد :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
فالفاحش هنا المراد به البخيل .
ويكون توجيه الكلام على هذا المعنى ، أن الشيطان يوسوس في نفس الغني ، يخوفه بالفقر ، حتى إذا استمكن من نفسه وسيطر عليها في هذا وجهه إلى طريق
[ ص: 1007 ] البخل الشديد فاتجه وأطاعه كما يطيع المأمور الآمر ، ويصير سيقة في يده يسوقه حيث يشاء .
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=665284إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، ثم قرأ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية .
هذه
وسوسة الشيطان ، وتلك خاطرة النفس الملكية ، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال :
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
صدر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق ، لا يمكن أن يجيء الشك في صدقه ; لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي لا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل ، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء ، فالولي تعالت حكمته يعد المنفق بأمرين : أولهما المغفرة ، وثانيهما الفضل ، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة .
فأما المغفرة ، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لا لأحد سواه ، وليس فيها رياء ولا نفاق ، ولم يعقبها من ولا أذى ، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة ، متجهة إلى الله تعالى منصرفة ، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه ، فإن الله تعالى يغفر له ، ويتوب عليه ، ولقد قال تعالى :
إن الحسنات يذهبن السيئات وقال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=662928الصدقة تطفئ الخطيئة " ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه ، قال الله تعالى :
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال ، وتوجه النفس نحو الخير ، كما تنمي المال .
[ ص: 1008 ] هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها ، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات ; لأنها تحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرا بتوفيق الله تعالى ، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة ، وإبعاده عما يذهب فيه المال ضياعا ، وإن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه ، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره ، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر ، فيشرف في نفسه ، ويشرف أمام الناس ; ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير ، وفي الآخرة بالنعيم المقيم ; ولقد قال تعالى :
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651351ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " وإن ذلك مشاهد محسوس بين الناس اليوم ، فإن الممسك إن لم يتلف ماله تلف جسمه ، فإن لم يتلف جسمه تلفت نفسه ، أو شرفه ، وتقطعت صلات المودة بينه وبين الناس حتى أقرب الناس إليه .
والله واسع عليم ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين ; فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله ، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة ، واسع الفضل ، يعطي من يشاء ; فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداء ، فهو الذي يمده إن تصدق بفضله أيضا ، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل ، وهو الصادق فيما يعد ، يعلم نتيجة العطاء ، وأنها لا تنتج فقرا كما يوسوس الشيطان ، بل يعلم الغيب ، وقد أكن في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا ، فصدقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب ، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم .
* * *