كانت الآيات السابقات تدعو إلى النظر في نعم الله التي احتوتها الأرض من أشجار وزروع وثمار وإلى ما في السماء من شمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمره، وما في اتصال الأرض بالسماء، وفي الآية التالية دعوة إلى
النظر في البحر وما فيه من نعم فقال تعالت كلماته:
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
الضمير (هو) يعود إلى الله تعالى، وذكر الموصول لبيان سلطان الله تعالى، وللإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي ذلل البحر لمنافعهم، وتمكنهم مما فيه، وليس صيدهم هو الذي مكنهم، بل تسخير الله البحر لهم كان نعمة لهم وتمكينا من نفعهم، وقوله:
لتأكلوا منه لحما طريا ووجه الأكل إلى لحمه مباشرة وفيه إشارة إلى أنه لا يزكى، بل يؤكل ميتا، ولذا روي في الأثر:
nindex.php?page=hadith&LINKID=846257«أحل لنا ميتتان حلالان السمك والجراد» وعبر سبحانه وتعالى أيضا بقوله:
لحما طريا [ ص: 4144 ] ولم يقل سمكا؛ لأن في البحر ما ليس بسمك، حيوانات تشبه حيوانات البحر، والظاهر أنها حلال وفيها ضخم يكفي الألوف، كالحيوان البحري المسمى الترسة، وكالحوت وفرس البحر، وغير ذلك، وكلها لحم طري.
وقد وصف القرآن اللحم الذي يؤخذ من البحر بأنه لحم طري؛ لأنه فعلا طري، وعظمه قليل، ولا يتخلل أجزاء جسمه، بل هو في موضع معين والذي يتخلل جسمه شيء صغير يسميه العامة «سفا»، ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في وصفه بأنه طري للإشارة إلى أنه سريع العفن، وأنه ضار إذا تعفن، وفي ذلك نظر، فإنه إذا وضع الملح عليه لم يكن ضارا في تعفنه، وهو المتفسخ منه، وقد أنكره أطباء عصرنا وزماننا ثم أباحوه بل استحسنوه، وقرروا أن فيه سرا طبيا، وإن لم يعرفوه.
وحرم التفسخ الحنفية؛ لأنه ضار، وقد علمت ما فيه.
و (اللام) في قوله تعالى:
لتأكلوا هي لام الغاية أي ذلله وسخره لتأكلوا منه لحما بعد صيده وإنضاجه، وفيه مواد غذائية كبيرة، مملوءة بالقشور، وغيرها.
وإذا كان ذلك الطعام فيه منفعة مرئية طيبة فالبحر وعاء للجواهر المختلفة، ولذا قال:
وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وهي ما يسمونه بالأحجار الكريمة من لآلئ وزمرد وغيرهما مما يتحلى به النساء وبعض المرفهين من الرجال، وإن لم يتشبهوا بالنساء.
وتوهم بعض المفسرين أن
التحلي بالجواهر حرام، وقاسوه على
التحلي بالذهب، ولكن الثابت في الآثار أن التحريم مقصور على الذهب على أنه روي أن بعض الصحابة قال: إنه لا تحريم، ولكن قالوا: إن ذلك من شواذ الأقوال ولقد ذكر
الشوكاني في «نيل الأوطار» أن هناك عشرين من الصحابة لم يحرموا الذهب على الرجال، ولكن لم يذكر من هم ولم يذكر من أسند هذا القول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
[ ص: 4145 ] ومهما يكن فإن الجواهر واللآلئ والزمرد والياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة، كالماس والكهرمان ونحوها لم يثبت تحريمها إلا أن يتخذها عقدا كما يتخذها النساء فإن ذلك يكره للتشبه بالنساء.
والنفع الثالث الذي ذكره القرآن الكريم من المنافع التي سخرها الله تعالى: الفلك، فقال تعالى:
وترى الفلك مواخر فيه مواخر جمع ماخرة، وهي السفينة التي تشق عباب الماء حتى يكون لها صوت يسمع، ولا يكون إلا للمراكب الكبيرة التي تحمل الأمتعة والأشياء، ولو كانت شراعية، وإنك لترى المراكب الشراعية ذوات الشراع المختلفة المتعددة وفي ذلك إشارة إلى نعمة التنقل في البحار، وقد كانت من بعد عصر القرآن الأساس في نقل البضائع والرجال من بلد إلى بلد، حتى إنه ليقاس عمران البلاد بمقدار شواطئها على البحار وتمكنها من الانتقال في الأقطار، وقد عمم الله سبحانه بيان انتفاع الإنسان بالبحار،
ولتبتغوا من فضله سبحانه وتعالى، و (الواو) في قوله:
ولتبتغوا عاطفة على فعل محذوف هو ثمرة لقوله تعالى:
وترى الفلك مواخر فيه لتنقلهم من أرض إلى أرض وبلد إلى بلد، وإقليم إلى إقليم، ولترتبطوا بأقطار الأرض، ولتبتغوا من فضله، أي لتطلبوا فضل الله الذي أفاض به في أقطار الأرض، فينقل كل إقليم ما يفيض من فضل الله إلى الإقليم الآخر، والابتغاء: الطلب بالشدة.
وقوله في منفعة الفلك:
وترى الفلك مواخر فيه أي أن رؤيتها ذات متعة للأنظار، كما أن النعم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما قال تعالى:
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام فالجواري تربط الأرض بعضها ببعض، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان حيثما كان وأنى سيكون.
وقال تعالى:
ولعلكم تشكرون أي أسبغ عليكم هذه النعم الظاهرة والباطنة لترجوا شكر الله على ما أنعم لا لتكفروا بها، وكما قال تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [ ص: 4146 ] ينقل القرآن عجائب نعم الله تعالى على خلقه من نعمة إلى أخرى وهذا أيضا فيه عجائب التكوين فمن ذكر للأنعام وذكر النبات والزيتون والنخيل والانتقال إلى ذكر البحار وخيراتها والفلك المشحون يجري فيها،