[ ص: 4234 ] بعد ذلك بين سبحانه وتعالى نعمه على خلقه في الأنعام التي يتمكنون منها بتأليفها وغيرها فقال تعالى:
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين .
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي: صير لكم من بيوتكم التي تتخذونها منها من الحجر والمدر والآجر واللبن، أي موضع سكون واطمئنان، فهم في حركة دائبة دائمة كالكواكب والنجوم والأجرام السماوية، ولم يجعلكم في سكون كالأحجار والجبال، ولو في مظهرها وإن كانت ذاتها تمور، بل جعلكم في مضطرب تتحركون وتنامون وتستقرون، فكان من نعمته عليكم أن جعلكم تسكنون وتعملون، فالعمل والسكن كلاهما نعمة من الله، ونرى من هذا التخريج أن جعل لكم ذلك السكن، والاطمئنان بعد اللغوب والتعب، كما أن بناء البيوت من موادها نعمة، وقد يقول قائل: كيف تكون نعمة أسبغها الله، والعبد هو الذي بناها، وتقول: إن النعمة في أن مكنه من ذلك، وسخر كل شيء، فبعقله الذي خلقه الله تعالى فدبر وبنى واهتدى إلى أساليبها، والخلاصة أن النعمة في أمرين: النعمة الأولى: في هدايته إلى البناء من مواده، وجعله مأوى، والثاني: في أنه جعله يسكن بعد الكرب والتعب، وهذا يشير إلى أن الراحة لا تكون إلا بعد جهد كما أن السكن لا يكون إلا بعد عمل هذه نعمة كبيرة، وهي نعمة الحياة العاملة الكادحة.
والنعمة الثانية: هي تمكين الإنسان من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وقد ذكر الله سبحانه نعمة فيها بعد نعمة أكلها وتأليفها، وتسخيرها للإنسان في حاجاته، فقال تعالى:
وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم الظعن الارتحال والتنقل، وانتجاع مواطن الكلأ، واستخفافها هو طلب خفتها أي: تطلب لخفتها، فالسين والتاء للطلب (يوم ظعنكم) ،
[ ص: 4235 ] وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا كالأخبية والفساطيط، تستخفونها يوم ظعنكم، فهي بيوت محمولة، وتلك بخلاف البيوت المبنية من الآجر والأحجار واللبن على نحو ما أشرنا من قبل.
وهي خفيفة في الظعن وفي الإقامة فإذا ظعنتم جعلتموها على ظهور الإبل أو الخيل ونحوها، وإذا أقمتم أنزلتموها من فوق ظهور الإبل، فأقمتم تبتغون الماء والكلأ ما شاء الله تعالى أن تقيموا، ثم ترتحلون.
ويشمل ذلك الذين يقيمون في الخيام في الصحراء، فإنها تكون موضع إقامة دائمة لهم، ويسمون " أهل الوبر "، كما يسمى سكان المدائن بـ " أهل المدر " كأهل
مكة والمدينة والطائف.
ويثار هنا كلام، وهو أن الخيام والفساطيط، لا تتخذ من الجلود، وهي الأدم فقط، بل تتخذ من الأصواف والأوبار والشعر أيضا، فليس ما يؤخذ من الجلود هو ما يأخذ من الأدم فقط، بل ما يؤخذ من الأخبية، في الأصواف والأوبار والشعر يؤخذ من الجلد أيضا؛ لأنه يجز منه أو يقص، وإنما خصت الأصواف وما يماثلها بالأثاث والمتاع، لأنها لا تؤخذ إلا منها، ولم تكن عند
العرب تؤخذ من الأدم، وذلك هو الغالب في عصرنا أيضا.
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين الصوف هو للضأن والأوبار للجمال، والأشعار للماعز وهي يتخذ منها أثاث، وهي الثياب والفرش، وقوله (متاعا)، أي: ينتفع فيه بالبيع والشراء والاتجار بشكل عام.
وأظن بأن المتاع هو ما يستمتع به بالنظر والزينة ونحو ذلك مما يكون متعة للإنسان، ونختار ذلك لسببين:
السبب الأول: أن الانتفاع بالاتجار جائز في كل شيء حتى الإبل، ولحمها وعظامها وجلودها، وإنما المذكور هو انتفاع شخصي بالاستهلاك لا بالاتجار.
[ ص: 4236 ] والسبب الثاني: أن الله تعالى ذكر متعة النظر والبهجة، وطيب النعمة في آية أخرى، فقال تعالى:
أثاثا ومتاعا أي: يتخذون من الأصواف والأوبار والأشعار أثاثا وزينة، والزينة ليست حراما، كما قال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
ولعله مما يرشح لهذا المعنى ويقويه تعالى:
إلى حين أي أن ذلك الاستمتاع بهذه النعم، وخصوصا الأثاث والمتاع إلى حين حتى يجيء وعد الله تعالى فيكون الحساب والعقاب والثواب.