ويقول تعالى في آيات حسية جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فتنة فقال:
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .
(إذ) متعلقة بمحذوف تأويله (اذكر)، أي اذكر الوقت الذي قلنا:
إن ربك أحاط بالناس الناس إما أن يريد بهم الناس جميعا، وهو الظاهر، فالعام لا يراد به بعض من يشملهم إلا بقرينة تدل على الخصوص، ومعنى الإحاطة العلم أو القدرة أو الإهلاك، فمن العلم قوله تعالى:
أحاط بكل شيء علما والقدرة أي أن كل شيء في قبضته، والإهلاك مثل
وظنوا أنهم أحيط بهم أي تعرضوا للهلاك.
والمعنى إنا أعلمناك بوحي أن الناس قد أحيط بهم، وأنهم في قبضة الله تعالى، والله عاصمك منهم فبلغ دعوتك غير خائف، فإنه سبحانه وتعالى
[ ص: 4410 ] عاصمك من الناس كما في قوله تعالى
يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
ويفسر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري الناس بأنهم أهل
مكة، والإحاطة الإهلاك، وقد بلغ الله نبيه يوم
بدر بأن يهلكهم، ويفسر الرؤيا المنامية بأنها رؤياه أنه مهلكهم في هذه الغزوة، وأنه إن لم يهلكهم بالإبادة فقد أضعف سلطانهم، وقد قال في ذلك: " واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك
أحاط بالناس أي
بقريش، يعني بشرناك بوقعة
بدر، وبالنصرة عليهم، وذلك قوله:
سيهزم الجمع ويولون الدبر قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وغير ذلك، فجعله كأنه قد كان وجد، فقال أحاط بالناس على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم
بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=909350 " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك " ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس إلى آخر ما جاء في أخبار
بدر ".
وخلاصة تفسير الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أنه يفسر الناس بأهل
مكة، وأن الرؤيا رؤيا منامية، وأنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رآها عندما التقى الجمعان في يوم الفرقان، وأن الهلاك ذهاب شوكة المشركين، وإن أخبار القرآن الكريم تكون عن وقائع المستقبل كأنها وقعت الآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك عندما اشتد أذاهم وإثباتهم، وكانت الفتنة في أنهم كذبوا.
ونحن مع إجلالنا لمقام الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في البيان لا نرى رأيه.
أولا: لأنه تأويل بعيد، ولأنه لا تكون فتنة، ولم يحدث كفر لهذه المناسبة.
ثانيا: لأن الأصل إطلاق العام على عمومه، حتى يقوم دليل أو قرينة على إرادة التخصيص.
[ ص: 4411 ] ثالثا: أن الآية مكية، وقد أجاب عن ذلك بأن الكلام كان تبشيرا بما سيكون يوم
بدر، ونقول: إن الألفاظ لا تساعده، ولا تومئ إليه، والقرآن كتاب عربي مبين.
ولذلك نرى أن الله أحاط بالناس، وأنهم في قبضته، وأنه قادر على كل شيء، وعاصم نبيه منهم، وحافظه حتى يؤدي رسالة ربه تعالى.
ولكن ما هي الرؤيا؟ قال أهل اللغة: الرؤيا تستعمل في الرؤية البصرية في اليقظة، والرؤيا المنامية في النوم، ويصح أن يراد بها هنا البصرية في اليقظة، وهي الإسراء، " فقد أسري به ليلا من
المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى ".
وقد كانت فتنة للناس؛ لأن من أهل
مكة من ذهب به الاستغراب والدهشة إلى حد الردة بعد الإيمان، أو على الأقل الشك بعد اليقين، ويصح أن يراد الرؤيا التي تكون بالروح، وهي ما كان بالعروج إلى الملأ الأعلى على ما اخترنا واتبعنا فيه كثرة من السلف الصالح.
ونلاحظ هنا أن المشركين كانوا يطالبون بآيات كآيات
عيسى وموسى، فلما جاءتهم كفروا، فلما جاءتهم في انشقاق القمر، قالوا سحر مستمر ولما جاءتهم في الإسراء كفروا فصدق فيهم قول الله تعالى:
ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ؛ لأنهم طبع على قلوبهم فلا يفقهون، هذا ما نراه، ولا مانع من أن نذكر أمرا يتعلق بتاريخ الإسلام، وإن كنا لا نرى ذلك في هذه الآية، وربما نراه في غيرها.
لقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد: إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى
بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن ذلك يؤيده التاريخ، فقد صيروا الحكم ملكا
[ ص: 4412 ] عضوضا، وذهبت الشورى، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري في شأن بيعة
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين
قال تعالى:
والشجرة الملعونة في القرآن وذلك لسوء مذاقها، وقبح مكانها، وأنها تخرج من أصل الجحيم، فليس معنى لعنها أنها مطرودة كما يطرد العصاة المسؤولون، لأنها لا توصف بالعصيان والمسؤولية، وإنما هي مذمومة، فيقال للطعام القبيح المذاق ملعون، وهي معطوفة على قوله تعالى:
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس فهي فتنة لهم كما أن الرؤيا كانت فتنة لهم، وقال تعالى مشيرا إلى أنها فتنة:
أذلك خير نـزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين
وإنها كانت فتنة لهم، لأنهم بدل أن يعتبروا بما فيها من إرهاب وإفزاع فتنوا بالألفاظ، فقالوا: إنها تخرج في أصل الجحيم، ونار الجحيم تأكل الحجارة فكيف تنبت فيها الأشجار، وأخذوا مفتونين يرددون هذا القول كأنهم أخذوا على القرآن أمرا مختلفا، فكانت هي الأخرى فتنة لهم، والضال لا يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، فهو يتعرج به في المعارج من غير اتجاه إلى صراط مستقيم.
وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن النار ربما لا تحرق في طبائع الأشياء، فقال: " قالوا إن
محمدا يزعم أن الجحيم تأكل الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر، وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وأنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار؛ فهذا وبر السمندل، وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار، فيذهب الوسخ ويبقى سالما لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر، وقطع الحديد المحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها ".
وقد قرب
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وجود شجر ينبت أصلها بالجحيم بالواقع المشاهد، ولكن تقرر أن قدرة الله تعالى فوق ما يتصور المشركون، وكل شيء عنده بمقدار،
[ ص: 4413 ] وكل أمر يذكر لغاية يتخذونها على النقيض، ولذا قال عن الشجرة الملعونة،
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا بهذه السخرية والاستهزاء والتهكم على أهل الإيمان.