[ ص: 1100 ] نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه
"الكتاب" : هو القرآن الكريم ، وإن أكثر السور التي تبتدئ بتلك الحروف تقترن فيها الحروف بالتنويه بذكر القرآن ، وإعلاء شأنه ، مما جعل المفسرين يعتبرون تلك الحروف أسماء للسور ، سماها القرآن بها ، وفواصل محكمة بين سورة وأخرى من سور القرآن الكريم ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل . وقد عبر - سبحانه وتعالى - عن نزول القرآن الكريم بـ
نـزل للإشارة إلى أن النزول كان تدريجيا ، ولم يكن دفعة واحدة ، إذ إن التنزيل يدل على التدرج في النزول ، وكذلك كان القرآن الكريم ; فقد نزل منجما ينزل في الوقائع ، أو الأسئلة ليكون السبب الذي اقترن بنزوله معينا على فهمه وإدراك بعض مغازيه .
وقد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما :
أولهما : أنه حق في ذاته ، ومبين للحق مشتمل عليه ، وداع إليه ، فقال الله تعالى :
بالحق أي مصاحبا له مقترنا به ملازما له ، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين ، واشتمل على الحق ، فكل ما فيه من قصص وأخبار وشرائع وأحكام وعقائد حق لا شك فيه ، وهو يدعو إلى الحق والعدل ، فهو الحق الملازم للحق ، الناصر للحق .
وثاني الأمرين : أنه مصدق لما بين يديه ; أي الشرائع الإلهية التي سبقته ; ولذا قال سبحانه :
مصدقا لما بين يديه فهو في لبه ومعناه مبين لكل الشرائع مصدق لصدقها ; وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها ومعناها وأصولها ; ولذا قال سبحانه :
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فالإسلام هو لب الأديان وغايتها ; ولذا قال سبحانه
إن الدين عند الله الإسلام وأنـزل التوراة والإنجيل هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة ; إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله
[ ص: 1101 ] في الشرائع السابقة ، وهي تتضمن أنها كانت هداية للناس ; وهذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي والإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم . وفي هذه الجملة إشارة إلى معنى آخر ، وهو أن
لكل أمة كتابا وهداية خاصة ، وإن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام ، حتى إذا كانت دعوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة .
( التوراة ) اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة
موسى عليه السلام ، ونزل عليه من رب العالمين ، وليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم ; لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل ما نزل في عهد
موسى ، وتشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود وسليمان وغيرهما ، وفوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وغيروا وبدلوا ، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا ، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن .
( والإنجيل ) كلمة يونانية معناها البشارة ، والإنجيل هو الكتاب الذي نزل على
عيسى ، وليس هو هذه الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم ، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد
المسيح عيسى عليه السلام ; نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه ; ولقد كان
للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل ، وهو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس . ولقد قرر الأحرار من النصارى ذلك ; فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية : " إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال إنها هي الإنجيل الأصلي ، والغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم ولم يروا أحواله بأعينهم ، وكان هذا الإنجيل بمنزلة القلب ، وما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب " .
[ ص: 1102 ] وقد ذكرت ذلك الإنجيل الأناجيل المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن ، فقد جاء في إنجيل
متى ما نصه : " وكان يسوع يطوف كل الجليل ، يعلم في مجامعهم ، ويكرر ببشارة الملكوت ، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب " وبشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل ، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا ، فقد كانت إذن بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل ، وهو المذكور في القرآن ، وإن لم يعلم الآن .