وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم [ ص: 4549 ] العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا
يبين الله (تعالى) أن إرسال الرسل للتبشير؛ والإنذار؛ وأن محاولة الذين كفروا إبطال الحق هو فرار من أن يستمعوا إلى النذير ينذرهم؛ والبشير يبشرهم؛ وما ذلك إلا من إمعانهم في الكفر والضلال؛ ولقد قال (تعالى) في ذلك:
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا "ما "؛ نافية؛ و "إلا "؛ استثناء؛ فيكون في الكلام نفي وإثبات؛ وهذا يفيد القصر؛ أي ليس إرسال الرسل إلا لتبشير المؤمنين بالزلفى عند الله؛ ودخول الجنة؛ وإنذار الكافرين بالبعد عن الله؛ وعن جنته؛ وأن ذلك كان يوجب الاعتبار؛ وتفهم ما جاء به الرسل؛ والإيمان به؛ لأنه خيرهم؛ ومصلحتهم؛ وتهذيبهم؛ ولكنهم بدل أن يفتحوا عقولهم للتدبر؛ وفقه الأمور؛ أخذوا يعملون تفكيرهم في رد الحق؛ فهم بمنأى عن شرع الله؛ كمن يفرض على شيء علما؛ فلا يتفهمه؛ ويكون تفكيره في رده؛ والتحايل على الخروج عنه; ولذا قال:
ويجادل الذين كفروا بالباطل يجادلون جدال مماراة؛ ولذا قال: "بالباطل "؛ أي: متلبسين في جدلهم بالباطل؛ وتلبسهم بالباطل لأنهم يدافعون عنه؛ ولأنهم يثيرون ترابا بهذا الجدل حول الحق؛ ولأنهم يفكرون في دائرته؛ وغايته إدحاض الحق; ولذا قال:
ليدحضوا به الحق وأصل الدحض: "الزلق "؛ يقال: "دحضت رجله "؛ أي زلقت؛ و "دحضت الشمس عن كبد السماء "؛ أي زالت؛ فكان في الكلام مجاز بتشبيه الحق - وقد ثارت حوله المثارات بجدلهم -؛ بمن تزلق قدمه فيسقط؛ وإن ذلك غايتهم وباعثهم؛ ولكنهم لا ينالونه؛ وهو مبتغى لا يصلون إليه؛ واللام هنا لام التعليل؛ وبيان الباعث؛
[ ص: 4550 ] وأن هذا الباعث الذي بعثهم على جدلهم؛ وهو باطل؛ أضافوا إليه أمرا زادهم ضلالا؛ وإمعانا في الفساد؛ وقال (تعالى) - فيه -: "واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا "؛ "الآيات "؛ هي المعجزات التي جاء بها الرسل؛ للدلالة على الرسالة؛ وأنهم يتكلمون عن الله (تعالى)؛ لا من عند أنفسهم؛ أخذوا يستهزئون؛ ففرعون استهزأ بالمعجزات؛ وهي تسع آيات؛ ولم يذعن لها؛
وعاد وثمود وقوم
نوح ولوط؛ استهزؤوا بالآيات؛ حتى دهمتهم من حيث لا يشعرون؛ وأنتم معشر العرب سرتم مسار هؤلاء؛ فاستهزأتم بالقرآن؛ وقد تحداكم أن تأتوا بمثله؛ فعجزتم؛ وما أصغيتم - بعد عجزكم - للحق؛ بل زدتم طغيانا؛ واستهزؤوا مع الآيات؛ استهزؤوا بما أنذروا به؛ وكان استهزاؤهم به بأن لم يلتفتوا إليه؛ وبأن تهكموا؛ حتى إنه يروى أن أبا جهل كان يقول - متهكما على النار -: إن محمدا يقول لكم: إنه يأتيكم بالنار؛ ولأصحابه بجنات كجنات الأردن؛ وهنا ملاحظة بيانية؛ أنه ذكر الذين يجادلون بالاسم الموصول؛ "الذين كفروا "؛ لبيان أن الكفر سيق إلى قلوبهم؛ فسد مسامع الإدراك؛ ولبيان أن السبب في جدلهم هو الكفر؛ وأن هؤلاء ظالمون؛ ولذا قال (تعالى) - بعد ذلك -: