فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقوله تعالى في آية أخرى:
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن
وعلى هذا يكون الإسلام هنا هو كمال الإيمان بالله جلت قدرته، وتوحيده. ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=912065الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان " .
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه: " عند الله " واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام
[ ص: 1149 ] بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو أن الله لا يقبل غيره، فوق أنه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد أنه الدين الذي نزل على كل النبيين، وأنه الأصل فى كل شرائع السماء؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى
فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليقة الثاني
نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء
محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا
فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وإن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات، ولكن لوحظ مع ذلك أن كثيرين من أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب أنها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى أو تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة؛ ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل إنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون وقد بين سبحانه أن سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى:
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فالسبب هو البغي فيما بينهم؛ لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث
[ ص: 1150 ] الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنافق لا يؤمن بشيء، ولقد قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر الصادق : " إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق " فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى:
بغيا بينهم كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشيء وإن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة "
إلا من بعد ما جاءهم إذ إن السياق هكذا: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه؟ والجواب عن ذلك: أن هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار، إذ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع أن العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم أن يصلوا إلى الحق في الأمر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع أن العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم أن يعرفوا السائغ منه، والحق أن العلم كالنور لا ينتفع فيه إلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لا بد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق؛ أما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين: 14] فأسباب العلم لا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لا بد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها؛ ذلك لأن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا؛ ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، إذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية؛ ولذا قال:
بغيا بينهم أي: ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
[ ص: 1151 ] وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه؛ ولذا لم يقل سبحانه " أوتوا العلم " بل قال:
جاءهم العلم إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة، وكذلك
لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى: من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه، فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى:
فإن الله سريع الحساب قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا: ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن أهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة إلى أن اختلافهم لا محالة راجع إلى كفرهم، وأن الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجته عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وأنطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد