لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قديريوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم إن لم يحسنوا القيام عليه؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه أنه
لا يصح للمؤمن أن يستعين بسلطان غير المؤمن على المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن
[ ص: 1175 ] الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر ، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا؛ فكأن الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة؛ أي أنه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن أن يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته؛ لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه، ولذا قال سبحانه:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أولياء جمع ولي، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها
الأصفهاني في مفرداته، فقال: " الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، والاعتقاد. والولاية (بكسر الواو) النصرة. والولاية (بالفتح) تولي الأمر. وقيل: الولاية والولاية واحدة نحو الدلالة والدلالة " . وعلى ذلك تكون كلمة ولي تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى أمر غيره. وما المراد بها هنا؛ الظاهر أن المراد هو من يتولى أمر غيره، فمعنى:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين نهى المؤمنين عن أن يدخلوا في ولاية الكافرين وتحت سلطانهم وفي ظلهم دون ظل المؤمنين وسلطانهم، فإن على المؤمنين أن يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم، والدليل على أن (أولياء) هنا معناها: متولون الأمر قوله تعالى:
من دون المؤمنين فإن " دون " هنا بمعنى " غير " ، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم؛ فالمعنى إذن أنه لا يجوز لطائفة من المؤمنين أن يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء وفي قوله:
من دون المؤمنين فإنه من المقررات البيانية أن اللفظ إذا
[ ص: 1176 ] أعيد معرفا بـ " أل " كان الثاني هو عين الأول، فإذا قلت: خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف بـ " أل " إشارة إلى أن الثاني هو عين الأول، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
وإن
النهي عن تولي المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى:
من دون المؤمنين يشير إلى أن تولي المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا تعليلا صريحا، فقد قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال تعالى:
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن أن يكون المؤمنون أو بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين أن السبب في أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور:
أولها: أن غير المؤمنين لا يمكن أن يرعوا حقوق المؤمنين حق الرعاية، بل لا يألونهم خبالا، وقد حققت الأيام ذلك، فإن المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيها: أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إذ تكون كل قوته وكل نشاطه الإنساني والاجتماعي لهم، وليس للإسلام منه شيء.
وثالثها: أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي
[ ص: 1177 ] فساد، ولذا قال تعالى:
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير أي: إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
هذا، ويجب التنبيه إلى أن تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن
بر المؤمن لغير المؤمن واجب إن تحقق السبب الموجب للبر، فقد قال تعالى:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة أي:
من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما؛ لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى؛ وهذا معنى قوله تعالى:
ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى: فليس من ولاية الله في شيء، وبعضهم قال: فليس من الصلة بالله في شيء، ولكن لم حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة؟ والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى أن من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم
هذا حكم الجماعة الإسلامية أو بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك؛ ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه:
إلا أن تتقوا منهم تقاة أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين
[ ص: 1178 ] فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى:
أن تتقوا منهم تقاة أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر، وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال:
أن تتقوا منهم تقاة أي: يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و " تقاة " مصدر وقى على وزن " فعلة " ، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
وإن هذا النص يستفاد منه أن
التقية جائزة، والتقية أن يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على أن يكون نزول الأذى مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية، وعلى أن
يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين أن يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض، فقد قال تعالى:
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا
هذا، وإن التقية الأحادية أمر لا يعلمه إلا الله، وقد يمالئ بقلبه ولسانه رجاء كما يفعل بعض ملوك المسلمين ويدعي أنه يفعل ذلك تقية ودفعا للضرر؛ ولذا قال سبحانه محذرا هؤلاء، ومحذرا من يوالي الكفار بشكل عام:
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير
التحذير: هو التخويف لأجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه. والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد أنه لا مخاف، ولا ما يثير الخوف؛ وإن مقام التحذير هنا واضح بين؛ لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون أن ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم
[ ص: 1179 ] إن أمنوا الكفار ومالئوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم أن يحذروه.
ومعنى:
ويحذركم الله نفسه قال بعض العلماء فيه: إن الكلام على حذف مضاف وهو: عقاب الله أو نقمته، وعندي أنه لا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى: احذر الأسد؛ فإنه لا يقدر: صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة.
وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله:
ويحذركم الله نفسه للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة " نفس " تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل: خاصمت زيدا نفسه، وغاضبت عمرا نفسه؛ وللإشارة إلى أن ما ينزله الله تعالى مغيب غير معلن الآن، إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه
عيسى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمرارا؛ ولذا قال بعد ذلك: " وإلى الله المصير " أي: إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين؛ فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.