وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ذكر الله (تعالى)
عقوبتين لمن أعرض عن ذكر ربه؛ أي: عن الداعي لذكر ربه؛ أولاهما
المعيشة الضنك؛ أي: الضيقة التي تضيق فيها النفوس؛ وتطوع للمطامع التي لا تنال؛ وإن نيلت طلبت غيرها؛ وقد بين
ابن كثير في تفسيره كيف كان الخلو من اليقين يجعل المعيشة ضنكا؛ قال
ابن كثير في
معنى الضنك: أي: ضنكا في الدنيا؛ فلا طمأنينة ولا انشراح صدر؛ بل صدره ضيق حرج لضلاله؛ وإن تنعم ظاهره؛ ولبس ما شاء؛ وأكل ما شاء؛ وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين؛ والهدى؛ فهو في قلق؛ وحيرة؛ وشك؛ فلا يزال في ريبه يتردد؛ فهذا من ضنك المعيشة؛ هذه هي العقوبة الأولى؛ وقد أشرنا إليها من قبل؛ أما العقوبة الثانية؛ فقد أشار - سبحانه وتعالى - إليها بقوله - عز من قائل -:
ونحشره يوم القيامة أعمى وذكرنا أن العجز هو عن الحجة والبرهان؛ حيث يجب الإدلاء بها؛ فهو عجز في موضع
[ ص: 4807 ] الحاجة؛ ذانكم عقابان؛ أحدهما في الدنيا؛ وهو مشتق من ذات الجريمة؛ فهو عقاب من ذات الفعل؛ والآخر؛ وهو على ما لم يستعد له؛ من الحساب؛ وقد جاء من إنكار البعث؛ ولو كان قد آمن به لاستعد له؛ وما فوجئ به؛ وأرتج قلبه؛ فكان هذا عذابا شديدا; لأن اللسان يقف حيث الحاجة أشد ما تكون إليه؛ والبصر يكون عليه غطاء عند إرادة الإبصار؛ هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة؛ الذي يكون بعد الحساب؛ وتقدير الجزاء؛ وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره؛ وانغمر في الشهوات؛ ولذلك قال (تعالى):
وكذلك نجزي من أسرف كهذا العقاب الدنيوي؛ من إحساس بضنك العيش؛ والضيق فيه؛ والتبرم بحياته؛ والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء؛ والإسراف على نفسه باللذات؛ وبالإحساس بالحرمان المتجدد؛ الذي لا يشبع من لذة؛ ثم يستكبر الأمور؛ ولذا تجده يكثر الانتحار؛ وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي؛ والمسرفين على أنفسهم بقلقهم؛ وعدم اطمئنانهم؛ ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم.
فالإشارة في قوله (تعالى):
وكذلك نجزي من أسرف وهي إلى
المعيشة الضنك؛ والحشر أعمى؛ "وكذلك "؛ مفعول لـ "نجزي "؛ والتعبير بالموصول "من "؛ للإشارة إلى أن الصلة؛ وهي الإسراف؛ سبب لذلك الجزاء.
وقد بين - سبحانه - أن وراء هذا العذاب عذابا أشد وأبقى؛ فقال - عز من قائل -:
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى وهو الذي يكون بعد الحساب؛ وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار؛ وهو أبقى؛ أي أنهم يكونون في جهنم خالدين فيها؛ وبئس المهاد.
ولقد ذكر الله (تعالى) لمشركي
مكة ما جاءهم من عبر؛ وما ساقه من قصص هاد مرشد؛ فقال - عز من قائل -: