وقد تقبل الله نذرها، وأجاب دعاءها؛ ولذا قال سبحانه:
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا قلنا إن التقبل هو أخذ الأمر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت أم مريم أن يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك
الراغب الأصفهاني : إنما قال:
فتقبلها ربها بقبول حسن ولم يقل: بتقبل حسن؛ للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة .
هذا هو قبول النذر، أما إجابة الدعاء وهو ألا يمسها الشيطان - أو لا يكون له سلطان عليها؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله:
[ ص: 1200 ] وأنبتها نباتا حسنا أي: أنشأها برعايته ومحبته وحصنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم: تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، أما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت: بأن نشأت في بيت العبادة، وإن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله:
وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا وكفلها أي: ضمها إلى
زكريا؛ لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم، ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا، ولذا قال سبحانه:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله:
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجيء من حيث لا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شيء، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على أن يؤتي لهذه المصطفاة رزقا جاريا لا يعلمه إلا هو، وهو على كل شيء قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا، ولذا عجب
زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه:
[ ص: 1201 ] قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب عجب نبي الله فقال: أنى لك هذا؟ أي: من أين لك هذا؟ فإن " أنى " تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى:
فأتوا حرثكم أنى شئتم وتكون بمعنى من أين، وهي هنا كذلك؛ عجب نبي الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لا يعرف سببه، ولو كان يعرف أنها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار؛
قالت هو من عند الله أكدت أنه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت:
إن الله يرزق من يشاء بغير حساب أي أن رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر؛ ولذا لا يحده الحساب، ولا تجري عليه الأعداد التي تنتهي. ويصح أن تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان أن الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.