وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون "علمناه "؛ التعليم هنا الإلهام والتوفيق والمرانة على عمل ما؛ وهو بتوفيق الله (تعالى)؛ وينسب إليه لأنه لا شيء إلا بإرادته وتوفيقه؛ و "الصنعة "؛ هي الصناعة
[ ص: 4902 ] والتفنن فيها وإجادتها؛ وهي من خواص الإنسان؛ و "اللبوس "؛ ما يلبس؛ وهو هنا الدرع الذي تتقى به ضربات السيوف؛ والرماح؛ والسهام؛ فلا تنفذ فيه من هذه الأسلحة إلى الجسم؛ وقد ألان (تعالى) الحديد
لداود - عليه السلام - ليتمكن من أداء الصنعة على الوجه الأكمل؛ وقال (تعالى):
لتحصنكم من بأسكم "البأس ": هو الشدة؛ وهو هنا الحرب التي يشعلها الإنسان في هذه الأرض؛ سواء أكانت هجوما معتديا آثما؛ أم دفاعا عادلا؛ و "تحصنكم "؛ مصدرها "إحصان "؛ وهو المنع والحماية؛ وهذه نعمة الله (تعالى)؛ فإنه كما أوجد للإنسان السيف؛ أوجد له الدرع؛ فيكون الدفع للاعتداء؛ وإضافة البأس إلى الناس فيه معنى بلاغي رائع; إذ إنهم هم الذين يوقعون أنفسهم في الشدائد؛ والله يدبر لهم أمر ردها؛ ودفعها.
وإن ذلك يوجب
شكر الله (تعالى)؛ وقد دعا - سبحانه - إلى ذلك؛ فقال:
فهل أنتم شاكرون الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ أي: بسبب تلك النعم التي أسداها لكم من هذا التدبر المحكم بأن هيأ لكم الدواء عند الداء؛ والدفع عند احتمال الاعتداء؛ والاستفهام للحض على الشكر; ولذا قال علماء البلاغة: إن هذا التعبير أدل تعبير على الطلب؛ والله (تعالى) المنعم ذو الجلال والإكرام؛ إن نشكر؛ ولكنا نكفر.
وأخبر (تعالى) عن نبي الله
داود؛ الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض؛ أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها؛ وأفهمه الله (تعالى) هذه الصناعة؛ وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبا؛ إنما العيب أن يكون كلا على الناس؛ وهو القادر على العمل؛ ولقد جاء في تفسير
القرطبي ما نصه: هذه الآية في اتخاذ الصنائع والأسباب؛ وهو قول أهل العقول والألباب؛ فالسبب سنة الله في خلقه؛ وقد أخبر الله (تعالى) عن نبيه
داود - عليه السلام - أنه كان يصنع الدروع؛ وكان أيضا يصنع الخوص؛ وكان يأكل من عمل يده؛ وكان
آدم حراثا؛
ونوح نجارا؛
ولقمان خياطا؛
وطالوت دباغا؛ وقيل: سقاء؛ فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس؛ ويدفع بها الضرر؛ وفي الحديث:
"إن الله يحب المؤمن الضعيف المتعفف؛ ويبغض السائل الملحف "؛