[ ص: 5111 ] بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ؛ هذا إضراب انتقالي؛ انتقل الله بهم من المجاوبة التي تكون بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يوجه أنظارهم إلى ما ينبئ عن الحق؛ وهو الوحدانية؛ يأخذها من نتائج ما يقولون؛ وإذا كان الأمر كما يقول المناطقة: النتائج متضمنة في مقدماتها؛ وما البرهان إلا كشف ما تطويه المقدمات من نتائج؛ فعلمهم بأن الكون كله مخلوق لله (تعالى)؛ متضمن وحدانيته (تعالى) في العبادة؛ الإضراب الانتقالي هو الانتقال من المجاوبة إلى تقرير الحق؛ مبينا بطلان ما يدعون بطريق إثبات بطلانه في ذاته؛ وبيان صحة نقيضه؛ قال (تعالى):
بل أتيناهم بالحق ؛ أي: بالأمر الثابت الذي لا يتطرق إليه الريب؛
وإنهم لكاذبون ؛ جعل وصفهم بالكذب المستمر مقابلا للحق الذي جاءهم الله (تعالى) به; لأن الكذب إذا مردت عليه النفس فسدت؛ وصارت لا تفرق بين باطل؛ وحق؛ إذ تكون نفسه غير مؤمنة؛ لأن الإيمان تصديق وإذعان؛ فلابد من الصدق؛ لكي يكون الإيمان؛ ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676260 " إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ والفجور يهدي إلى النار؛ ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا " .
ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان والكذب نقيضان؛ لا يجتمعان؛
nindex.php?page=hadith&LINKID=708779فقد سئل: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: " يكون " ؛ أويكون المؤمن جبانا؟ قال: " نعم يكون " ؛ وسئل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: " لا يكون المؤمن كذابا " ؛ ولذا كان حقا أن يقابل الحق الذي يجيء به الله (تعالى)؛ ويتأكد كذبهم؛ وقد أكد الله (تعالى) بـ " إن " ؛ المؤكدة؛ وباللام؛ وبالوصف؛ بأنهم من شأنهم الكذب؛ وبالجملة الاسمية.
[ ص: 5112 ] ولا يفتح القلب للأوهام؛ ووسوسة الشيطان؛ إلا أن يمرد على الكذب; لأن الكذب يخفت صوت الحق والبرهان والعقل؛ ولقد نفى الله (تعالى) من بعد ذلك أوهامهم؛ فقال:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ؛ نفى الله (تعالى) أن يكون له ولد؛ وادعاءهم أن الله اتخذ ولدا؛ فالنصارى قالوا: اتخذ الله
عيسى ولدا له؛ وبعض المشركين قالوا: اتخذ الله (تعالى) الملائكة بنات له؛ واليهود قالوا: اتخذ الله عزيرا ولدا له؛ وتعبيرهم بـ " اتخذ الله ولدا " ؛ يشير إلى احتياج الله (تعالى) للولد؛ كما يقول النصارى: اتخذ الله
عيسى ولدا؛ ليقتل؛ ويكفر عن خطيئة
آدم؛ والله - سبحانه وتعالى - غفار للذنوب؛ قابل للتوب؛
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ؛ أي: المحمود على كرمه وإفضاله دائما.
والقسم الثاني من المشركين الذين اتخذوا الأوثان آلهة من دون الله؛ أو معه؛ وقد نفى الله - سبحانه وتعالى - ذلك نفيا كاملا؛ مستغرقا؛ و " من " ؛ في قوله: " من ولد " ؛ و " من إله " ؛ لاستغراق النفي؛ والمعنى: ما اتخذ الله من ولد؛ أي ولد كان؛ فالكل خلق له؛ ولا تفاوت أمامه؛ وما كان معه من إله أي إله؛ ومن أي مادة.
ولقد برهن - سبحانه - على بطلان الشرك فقال:
إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ؛ أي: " إذا كان هناك آلهة غير الله " ؛ فالتنوين في " إذا " ؛ ينبئ عن جملة أضيفت إليها " إذا " ؛ وتكون في معنى الشرط؛ ولو كان هناك لترتب على ذلك أمران محالان؛ ولا وجود لهما؛ وإذا انتفيا انتفى ما أدى إليهما؛ فنفي اللازم يقتضي نفي الملزوم؛ والأمران هما: الأول: أن يذهب كل واحد بما خلق؛ وبذلك لا يتحقق التناسق في الوجود؛ وكله نسق واحد؛ لا تفاوت فيه.
[ ص: 5113 ] والثاني: أن يكون بينهما التعالي؛ فلا يكونان في قدرة واحدة؛ بل يكونان على أقدار مختلفة؛ وفرض التساوي في القدر ينتهي إلى أن يكونوا كشخص واحد؛ أو كإله واحد؛ والواحد ضد التعدد؛ فلكي يستقيم فرض التعدد لابد أن يفرض أن بعضهم يعلو على بعض؛ وذلك يؤدي إلى التنازع؛ وهذا يؤدي إلى الفساد؛ كما قال (تعالى):
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون
وقال - في هذه الآية -:
سبحان الله عما يصفون ؛ أي: تقدس - سبحانه وتعالى - " ما " ؛ يصح أن تكون موصولا حرفيا؛ ويصح أن تكون موصولا اسميا؛ وعلى الأول يكون المعنى: تقدس الله (تعالى) وتنزه عن وصفهم له بأن له شريكا؛ أو اتخذ ولدا؛ وعلى الثاني يكون المعنى: تقدس الله عن الذي يصفونه به؛ وهو أن له شريكا؛ والمؤدى واحد.