وقد أنذر - سبحانه - المشركين بأنهم سيندمون حيث لا ينفع الندم؛ وأنهم يحاولون أن يصلحوا من أنفسهم؛ حيث فاتهم الأجل؛ وسبقهم الزمن؛ وما سبقهم لا يعود؛
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ؛ الضمير في " أحدهم " ؛ يعود إلى المشركين؛ الذين كانوا يرددون:
أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون ؛ والذين كانوا يرددون:
إن هذا إلا أساطير الأولين ؛ هؤلاء إذا حضر أحدهم الموت؛ ورأى رهبته وأدرك معاني الآيات الكونية والقرآنية؛ والدعوة المحمدية؛ علم أنه كان في ضلال؛ وذكر " أحدهم " ؛ مع أن الأمر يعمهم; للإشارة إلى أن الضلال كان من اجتماعهم؛ وتآلفهم على الباطل؛ وتعاونهم على إثمه؛
قال رب ارجعون ؛ الخطاب للجماعة التي تقبض الأرواح من الملائكة؛ أو هو عندما يكون قاب قوسين من الموت؛ ينادي من حوله؛ أو في نفسه؛ يقول: ارجعون؛ كما يقول المستغيث عندما يدلهم عليه الأمر؛ أو تحدثه نفسه بذلك؛ كما قال (تعالى):
ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول
وقوله (تعالى):
لعلي أعمل صالحا فيما تركت ؛ أي: رجاء أن أعمل صالحا فيما تركت من مال وقوة؛ وسلطان؛ وكان الرجاء والتردد لأنه لا يضمن توفيق الله؛ أو
[ ص: 5118 ] لأن الرجاء هو ما تقتضيه الكياسة؛ فهو يطلبه راجيا؛ وقد رد الله (تعالى) رجاءه؛ مكذبا له في عزمته على تدارك ما فاته؛ وإنما هي أمنية يتمناها؛ ويخالفها؛ كما كان يعد في الدنيا أنه إذا ذهب الكرب عاد إلى ربه مؤمنا؛ فإذا كشف الله عنه الضر عاد كافرا؛ رد الله (تعالى) كلامه بقوله:
كلا إنها كلمة هو قائلها ؛ أي أن هذا الرجاء كلمة نطق بها؛ ولا تصادف عقيدة في قلبه؛ وأكد هذا بقوله (تعالى):
هو قائلها ؛ أي أنه لا يتجاوز النطق بها؛ ولا معنى لها في القلب؛ كما قال (تعالى):
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ؛
ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ؛ " الوراء " ؛ تدل على ما يستقبل؛ أي: ما يجيئهم بعد قولهم؛ وهذا كقوله:
وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا
والضمير في " ورائهم " ؛ يعود إلى جماعة المشركين؛ وما قاله أحدهم هو المتردد على ألسنتهم جميعا؛ فعاد الضمير إليهم جميعا؛ و " البرزخ " ؛ هو الحاجز المانع؛ قال
الجوهري: " البرزخ " : الحاجز بين الشيئين؛ والبرزخ ما بين الدنيا؛ والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ وقد قالوا: إنه القبر؛ ونقول: هو القبر لمن يقبر؛ والله أعلم.