وإن وراء الطاعة المخلصة؛ والجهاد؛ أن تستخلفوا في الأرض؛ ولذا قال - سبحانه -:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ؛ بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في جهاد مستمر هو ومن معه من المؤمنين؛ فبين الله (تعالى) غاية هذا الجهاد؛ أن يكونوا هم الذين يخلفون الكافرين في السيطرة على الأرض؛ والسلطان عليها؛ وكما ملئت الأرض فسادا؛ تملأ إصلاحا.
كان حال
المهاجرين والأنصار جهادا مستمرا؛ لا توضع سيوفهم في أغمدتها؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الحق بلسان الحق؛ من غير إكراه على إسلام؛ فإنه لا إكراه في الدين؛ ولكن كان الجهاد ليعلم الرشد من الغي؛ ولإزالة المحاجزات التي كان يقيمها المتحكمون في الناس؛ فما كانت الحرب إلا لإزالة هذه المحاجزات؛ ولكي يخلو الناس بوجوههم للدعوة الإسلامية؛ ومن اهتدى بعد ذلك فلنفسه؛ ومن ضل فإنما يضل عليها.
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ؛ التعبير بالموصول للدلالة على أن الصلة سبب هذا المؤكد؛ والاستخلاف جعلهم خلفاء؛ والأرض هي أرض
العرب وغيرها من أرض
الفرس والروم؛ وما وراءها من المشارق؛ والمغارب؛ والسين والتاء
[ ص: 5220 ] للطلب؛ وهما يفيدان تأكيد الاستخلاف؛ لأن الطلب من الله؛ وهو لا يتخلف؛ وتنصرفان إلى التأكيد المطلق؛ فجعلهم خلفاء في الأرض لمن كانوا قبلهم؛ فخلفوهم في السيطرة على الأرض؛ وكمال سلطانهم.
وقوله (تعالى):
ليستخلفنهم في الأرض ؛ اللام تنبئ عن قسم مضمر في القول؛ فالله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بسبب إيمانهم؛ وعملهم الصالح في الطاعات والمعاملات الإنسانية؛ وعدهم - سبحانه - بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من بعد
نوح؛ كعاد؛ وغيرهم؛ خلفاء مسيطرين على ما في الأرض؛ وقد أكد - سبحانه وتعالى - وعده بالقسم؛ وبنون التوكيد الثقيلة؛ وبالمشابهة بينهم؛ وبين من سبقوهم؛ ممن جعلهم خلفاء في الأرض.
وإن ذلك تبشير للمؤمنين الذين آمنوا واتبعوا
محمدا - صلى الله عليه وسلم - في جهاده؛ وهو ماض إلى يوم القيامة؛ وليست الخلافة هي خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولكنها خلافة الله في الأرض؛ بمقتضى الفطرة الإنسانية التي قال (تعالى) فيها:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؛ فهي السلطان في الأرض؛ بمقتضى التمكين الإلهي.
ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما إن جاء بدعوته إلى الهدى؛ حتى كانت
مكة كلها تقاومه بكل أنواع المقاومة؛ ولهاميم
قريش تكيد له؛ ولما انتقل إلى
المدينة ليدعو إلى دينه؛ وقد فشا ذكره في أرض
العرب؛ اضطر للجهاد؛ وأخذ يشق الطريق للدعوة؛ فكان وعد الله (تعالى)؛ وهم في هذا الجهاد؛ وعد الله بأن يكونوا الممكنين في الأرض؛ وأن يكونوا مستخلفين فيها؛ وذلك الوعد يتضمن أمرين؛ أحدهما: نصر مؤزر دائما؛ ما داموا مؤمنين عاملين الصالحات؛ والثاني: أن يكون لهم السلطان؛ وأن يكونوا المسيطرين في الأرض؛ وإن استخلافهم في الأرض كان معه أمور أعزتهم وأعلتهم؛ ذكرها - سبحانه - في قوله (تعالى):
[ ص: 5221 ] وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ؛ وهذا هو الأمر الأول؛ وهو أساس لما قبله؛ ولما بعده؛ فالدين يمكن فيما بينهم؛ فلا يكون ثمة ما يسوغ ضعف اليقين؛ بل تبقى الحجة للقرآن وحده؛ ويدركه الناس في دعة واستقرار؛ ولا يوجد إيذاء ولا استخذاء؛ ولا استهزاء؛ ولا تهكم على المؤمنين؛ ولا يستطيعون كما فعلوا من قبل؛
وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ؛ والثاني بينه - سبحانه وتعالى - بقوله:
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ؛ أي: يجعل الله (تعالى) من بعد الخوف المستمر من المشركين؛ أمنا دائما مستقرا؛ وكان التنكير لبيان عظيم الأمن؛ وأنه أمن مستقر ثابت؛ ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656430 " ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون " ؛ وهنا إشارة بيانية في قوله (تعالى):
دينهم الذي ارتضى لهم ؛ أي: الذي ارتضاه - سبحانه - واختاره لهم؛ ففي هذا إشارة - أولا - إلى كمال نعمته عليهم بهذا الدين؛ و- ثانيا - بأنه اختاره وارتضاه لهم؛ و- ثالثا - بأنه الحق الذي لا ريب فيه.
وقال - سبحانه - مبينا خاصة هذا الدين الحق؛ وشعار الذين بدلهم - سبحانه - من بعد خوفهم أمنا؛ فقال:
يعبدونني لا يشركون بي شيئا ؛ أي: يعبدونني وحدي في عامة أمورهم؛ لا يشركون بي شيئا في عبادة ولا طاعة ولا عمل؛ فعبادتهم له - سبحانه - وطاعتهم له وحده؛ فلا يطيعون حاكما؛ ويتركون طاعة الله؛ وإذا خيروا بين عصيان الحاكم؛ وعصيان الله اختاروا عصيان الحاكم؛ فإن استمروا على ذلك استمر لهم السلطان في الأرض.
وقوله (تعالى):
ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ؛ أي: من كفر وخالف وعصى الله بعد التمكين والأمن والاستقرار؛
فأولئك هم الفاسقون ؛ أي: الخارجون الجائرون البائرون؛ فلا يكون كفرهم مجرد جحود؛ بل هو الضياع لا محالة؛ واعتبر
[ ص: 5222 ] بحال المسلمين؛ فقد نالوا خلافة الأرض؛ وصار ملكهم في مشارق الأرض؛ ومغاربها؛ وصاروا المسيطرين من الصين إلى بحر الظلمات؛ فلما فسقوا عن أمر ربهم صاروا قوما بورا؛ وإنه إذا كان ضياعهم لأنهم ضلوا؛ واتخذوا القرآن قولا مهجورا؛ فعودتهم إليه فيها عودة عزهم.
وهكذا قد ابتدأ نور الحق يشرق؛ وفجر الإسلام يملأ نوره الآفاق؛ والله - سبحانه وتعالى - هو الهادي.