ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ ص: 1279 ] بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة استهانة بعض أهل الكتاب الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحق وتلبيسهم الحق بالباطل، وكذبهم وافتراءهم على النبيين وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - ثم بين تعصبهم، وحرصهم على أن يظهروا بين الناس بأن الهداية في حوزتهم وحدهم، وأن الناس ما عداهم دونهم، ثم ذكر ما يتواصون به فيما بينهم من النفاق بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، لعلهم يفسدون بذلك عقائد المؤمنين؛ وهكذا مما يدل على فساد اعتقادهم وعدم إذعانهم للحق، وكذبهم فيما يدعون.
والكذب والخيانة توأم، كما أن الصدق والأمانة توأم، وفساد النفس يترتب عليه فساد العمل، وعدم الإذعان للحق في الاعتقاد يترتب عليه عدم الإذعان للحق في المادة، فإذا كان بعض أهل الكتاب قد كان منهم ذلك النفاق الديني، فإنهم قد بدت منهم الخيانة المادية، ولذا قال سبحانه:
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قسمان متقابلان أحدهما يبلغ الغاية من الأمانة، فيعطيها عند طلبها مهما تكن قيمتها، ومهما تكن نفاستها، وعبر عن الكثرة بالقنطار من الذهب، ولم يذكر كونه من الذهب؛ لأنه مفهوم من السياق؛ لأن الدينار لا يكون إلا من الذهب، فلا بد أن يكون القنطار الذي يكون في يد الأمين من الذهب، وهذا القسم الذي يكون على هذا القدر من الأمانة هو الذي يجيب داعي الحق ويؤمن به إذا دعي إليه؛ لأن التسليم بالحق في الماديات التي تصورها الأمانة لا ينشأ إلا من ينبوع النفس التي تؤمن بالحق في المعنويات، بل إن هذا في الحق ينتهي إلى معنى الأمانة، لأن نصر الحق والإذعان له بعد قيام الدليل عليه نوع من الأمانة، إذ إن الله سبحانه أودعنا هذه القوى المدركة لنجعلها للحق وللنفع، فذو العلم عليه أن يؤدي أمانة العلم، وذو المال عليه أن يؤدي أمانة المال، ومن قام بين يديه الدليل على صدق دعوة إلى الحق لا يكابر ولا يماري، وكانت الأمانة أن يعلنتلك الحقيقة ويناصرها ويؤيدها، ولذلك قال كثيرون من العلماء: إن الأمانة
[ ص: 1280 ] التي حملها الله للإنسان بمقتضى الفطرة هي إدراكها لمعنى التكليفات الإنسانية والإلهية وقيامه بحقها، وقد قال تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
هذا هو القسم الأول، وقد قال العلماء إنهم أهل الكتاب الذين آمنوا برسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=106كعبد الله بن سلام ، وغيره من اليهود الذين سارعوا إلى الإسلام، وكذلك الشأن في كل كتابي علم الحق في رسالة النبي ? صلى الله عليه وسلم - وأذعن له؛ لأنه يكون ممن يؤدي الأمانة.
والقسم الثاني هو الذي لا يؤدي الأمانة، وهو في مقابل الأول؛ لأن الأول في السماك الأعزل، وهذا في الحضيض الأوهد. وصور الله سبحانه الفرق بينهما ذلك التصوير الحكيم البين الواضح بأن الأول لو ائتمن على قنطار من ذهب لأداه، والثاني إن ائتمن على دينار لا يؤده إلا بالملازمة الدائمة، والتتبع والإلحاف الشديد، وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الملازمة بقوله تعالى:
إلا ما دمت عليه قائما أي: إلا إذا استمررت مطالبا له مصمما على أن يؤدى مشرفا عليه في غدوه ورواحه. و (دام) معناها: استمر، وقائما معناها ملازما متتبعا؛ ذلك لأن (قام) في استعمال القرآن الكريم لها تكون كما قال
الراغب في مفرداته: " على أضرب، قيام بالشخص إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء وهو المراعاة للشيء، والحفظ له، وقيام هو بمعنى العزم على الشيء. . ومن المراعاة للشيء قوله تعالى:
كونوا قوامين لله شهداء بالقسط وقوله تعالى:
قائما بالقسط وقوله تعالى:
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وقوله تعالى:
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وقوله تعالى:
إلا ما دمت عليه قائما أي: ثابتا على طلبه.
[ ص: 1281 ] وإن هؤلاء الذين لا يؤدون الأمانة المادية إلا بهذه المطالبة الدائمة، والملازمة المستمرة - هم الذين لا يتركون التضليل كما أشرنا، فلا يأمن أهل الحق شرهم إلا برقابة مستمرة لمنع تضليلهم، وفتنة الناس عن دينهم، ثم هم يخونون العهود، وطالما خانوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حروبه مع المشركين، حتى اضطر لإجلائهم عن
المدينة وما حولها. وإن هؤلاء يبررون خيانتهم للأمانة المادية بقولهم كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم:
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل أي: ذلك الامتناع عن وفاء الحق، وأداء الأمانة والإذعان لبواعث الهداية الذي هو أداء الأمانة المعنوية سببه زعمهم الذي قالوه، ونطقوا به وهو أنهم ليس عليهم سبيل أي: تبعة أو ملام أو عتاب في شأن الأميين وأموالهم، وهذا معنى قوله تعالى:
ليس علينا في الأميين سبيل فالأميون هم العرب، وليسوا أميين؛ لأنهم لم يكن عندهم علم ولا حضارة، وكانت تغلب عليهم الأمية، وهي الجهل بالكتابة والقراءة، فكان هذا الاسم لهم لغلبة الأمية عليهم، ومعنى (سبيل) حجة ملزمة؛ لأن السبيل هو الطريق، وهو يطلق بمعنى الحجة باعتبارها طريق الإلزام وتحمل التبعات، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسير هذه الجملة السامية
ليس علينا في الأميين سبيل أي: لا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأميين، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم ما فعلنا من حبس أموالهم والإضرار بهم، إلا لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم، ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة، وقيل: " بايع اليهود رجالا من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، قالوا: ليس لكم علينا حق، حيث تركتم دينكم " .
وإن هذه أخلاق الذين يظنون في أنفسهم العلو المطلق، ويستخدمون ذلك الظن الباطل، لأكل أموال الناس بالحق، وليفسدوا الأرض وهو ما عليه أهل أوروبا، يقومون بالحق في بلادهم، ويثبتون دعائمه في عشائرهم لا يضيع عندهم
[ ص: 1282 ] حق، فإذا تجاوز الحق أقطارهم أنكروه، ولما لم يذعنوا له، وتقولوا الأقاويل وادعوا أنه ليس للأمم المتخلفة في الحضارة حق كحق غيرها، وأنه ليس للملونين حق كحق غيرهم. وإن هذا مبدأ اليهود، وهم مغرقون فيه، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا، وكان النص فيه: لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته، فزادوا كلمة (أخيك الإسرائيلي) ؛ لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية في ذاتها.
وإن المبادئ الخلقية الفاضلة لا تعرف جنسا ولا لونا ولا ثقافة، ولذا قال تعالى ردا عليهم مبينا كذبهم.
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون في هذه الجملة السامية رد عليهم بأن ما قالوه من أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، كلام لا أصل له في شرع سماوي فهو ليس دينا، وإذا كانوا قد قالوه على الله تعالى فقد كذبوا على الله تعالى، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في قضية عامة تدل على أن من شأنهم أن يقولوا الكذب على الله تعالى، وهم يعلمون أنه كذب، فقد كذبوا فادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكذبوا فادعوا أن
إبراهيم كان يهوديا، وكذبوا فادعوا أنه لا نبي إلا من بني إسرائيل، فكان الكذب على الله تعالى شأنا من شئونهم، ولذلك عبر بالمضارع، أي أن شأنهم أن يقولوا الكذب على الله، قالوه في الماضي، ويقولونه في الحاضر، وسيقولونه في المستقبل، وذلك شأن الذين يحتكرون لأنفسهم حق التكلم في الدين، ويحسبون غيرهم ليس من حقهم أن يتكلموا فيه.
وإن الأمانة كانت توجب عليهم ألا يقولوا إلا الحق، ولكنهم خانوها في الماديات، وما ذلك إلا لأنهم فقدوها في المعنويات، فكان هذا هو أساس ذلك الضلال البعيد، ولقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أهل الكتاب عندما نزل قوله تعالى عنهم: ليس علينا في الأميين سبيل قال عليه الصلاة والسلام: [ ص: 1283 ] " كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية، إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " .
ويروى أن رجلا سأل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، فقال: " إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس. فقال حبر هذه الأمة: هذا كما قال أهل الكتاب:
ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم " .